الثلاثاء، 7 يونيو 2011

أمريكا تداري عجزها بطبع 600 مليار دولار دون رصيد

بالرغم من إقرار الإدارة الأمريكية العديد من الخطط الإنقاذية خلال عامي 2008 و2009، وتضمنت تقديم وضخ مئات المليارات من الدولارات بشكل قروض ومساعدات قدمت لمختلف القطاعات المالية والاقتصادية.

 فإن اقتصاد الولايات المتحدة ما زال يعاني من مفاعيل وإرهاصات الأزمة التي بدأت فيها، ثم تحولت إلى أزمة عالمية الطابع والتأثير، وبات من الصعب إخراج الاقتصاد الأمريكي من دائرة أسوأ أزمة أصابته منذ ما عرف بالكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الـ 20 المنصرم، وكأنه أشبه باقتصاد من ورق، ما زال في حاجة إلى عديد من خطط الإنعاش والعناية كي يقف على قدميه.

توسيع الحيازة


يأتي إعلان لجنة السوق المفتوحة في المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عن برنامج جديد لسياسة ''التيسير الكمي''، كي يكشف عمق الأزمة التي ما زالت تعصف بالاقتصاد الأمريكي، حيث قرر مجلس الاحتياطي الفيدرالي، أخيرا، شراء سندات ديون طويلة الأجل بمقدار 600 مليار دولار، وبما يعادل نحو 75 مليار دولار شهريا، وهو ما يعني طباعة 600 مليار أخرى، من دون رصيد، من أجل ضخها في الاقتصاد الأمريكي بحلول منتصف عام 2011؛ بغية العمل على زيادة وتيرة الانتعاش في قطاعي الإنتاج والعمالة، التي لا تزال بطيئة في الولايات المتحدة. لكن القرار جاء بعد أن استنفد المجلس أداة سعر الفائدة، الذي بات يقترب من الصفر في المائة في أيامنا هذه، دون أن يكون له أي تأثير ملموس على أداء الاقتصاد الأمريكي؛ لذلك قررت اللجنة الإبقاء على المجال المستهدف لسعر فائدة الأموال الفيدرالية عند صفر إلى 0.25 في المائة، مع مواصلتها رصد التوقعات الاقتصادية والتطورات المالية، وتوظيف أدوات سياستها ''عند الضرورة لدعم الانتعاش الاقتصادي والمساعدة على ضمان أن التضخم يسير بمستويات تتماشى مع تفويضها مع مرور الوقت''.

وتأمل اللجنة، من خلال شراء المزيد من سندات الخزانة الأمريكية، تخفيض تكاليف الاقتراض من القطاع المصرفي الأمريكي، وتشجيع المستثمرين على زيادة إنفاقهم، لكن الغاية من قرارها تتمحور حول ''توسيع حيازاتها'' من الأوراق المالية؛ أملا في أن ''يسير الانتعاش الاقتصادي بوتيرة أقوى وللمساعدة على ضمان أن التضخم يسير بمستويات تتوافق مع تفويضها بمرور الوقت''، حسبما أعلنته اللجنة نفسها.

غير أن عملية ''توسيع الحيازة'' تفضي في حالة الولايات المتحدة طباعة المزيد من الدولارات، الأمر الذي سيترك بالضرورة أثرا تضخميا كبيرا على قيمة الدولار نفسه، ويزيد في الوقت نفسه من خفض قيمته. والإجراء الأخير هو أمر تسعى إليه الولايات المتحدة في سياق ''حرب العملات'' غير المعلنة، التي تدور رحاها بين الدول القوية اقتصاديا، حيث يشكل خفض قيمة الدولار أحد أهم الطرق الهادفة لتحميل أعباء الديون التي ترزح تحتها خزانة الولايات المتحدة على الدول الأخرى، خاصة الدول التي تقوم عملاتها بالدولار، أو الدول التي تحتفظ بأرصدتها بالدولار، وكذلك الدول التي تبيع نفطها بالدولار.

التيسير الكمي

تنهض سياسة التيسير الكمي على توفير كمية كبيرة من السيولة النقدية في الأسواق؛ كي تتمكن من القيام بنشاطاتها وعملياتها، وبالتالي يتمّ التخلص من الاختناقات الائتمانية ما بين مختلف البنوك وفي تعاملاتها مع سائر العملاء.

 وهذه هي المرّة الثانية التي يلجأ فيها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى إتباع هذه السياسة النقدية غير التقليدية، التي تتمحور حول قيام الاحتياطي الفيدرالي بشراء أدوات الدين الحكومية، طويلة الأجل من السوق، بواسطة إصدار المزيد من الديون قصيرة الأجل، وتوسيع القاعدة النقدية في جانب الخصوم في ميزانيته.

ويريد المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تطبيق سياسة التيسير الكمي؛ كي يتمكن من خفض أسعار الفائدة طويلة الأجل في سياق محاولة إقناع المستثمرين بالاستثمار في القطاعات الاقتصادية الحقيقية، وكذلك إقناع البنوك بتوسيع الإقراض؛ من أجل دفع النشاط الاقتصادي بشكل العام. لكن عديدا من خبراء الاقتصاد يشككون في نجاعة هذه السياسة، بوصفها غير مباشرة، وغير مضمونة العواقب والنتائج، خصوصا في ظروف الأزمة الراهنة.

وقد قام المجلس الاحتياطي، في المرة الأولى من تطبيق سياسة التيسير الكمي في عامي 2008 و2009، بضخ ما يقارب 1.7 تريليون دولار، استخدمها في شراء سندات الخزينة، وشراء ديون شركات تمويل الرهن العقاري، مثل شركة فاني ماي وفردي ماك، واستخدم أدوات مالية أخرى مدعومة بقروض الرهن العقاري، وبالتالي كان الهدف من سياسة التيسير الكمي، في نسختها الأولى، مبادلة الحكومة الأمريكية الأصول الخطرة المرتبطة بالرهن العقاري في مقابل النقد الخالي من المخاطر. وتمكنت الإجراءات التي قامت بها في ذلك الوقت من المساعدة على تنظيف ميزانيات البنوك، مما عرف باسم ''الأصول المسمومة''، الأمر الذي أسهم في إعادة الثقة للأسواق المالية الأمريكية.

أما اليوم، وفي النسخة الثانية من سياسة التيسير الكمي، فإن الحكومة الأمريكية تحاول من خلال المجلس الاحتياطي الفيدرالي مبادلة النقد مقابل أصول لا تقل أمنا عن النقود السائلة، حيث يمكن لهذه السياسة أن تعمل من خلال توفير السيولة للبنوك في مقابل الأصول غير النقدية؛ وذلك لحملهم على تقديم قروض للقطاع العائلي وقطاع الشركات.

غير أن خبراء الاقتصاد يرون أن الإشكاليات التي تعيشها البنوك الأمريكية في الوقت الحالي لا تتعلق بشكل جوهري بحجم احتياطياتها؛ لأنها ترجع إلى عدم قناعة البنوك بكفاية العائد الذي ستجنيه على هذه القروض في مقابل المخاطر المرتبطة بها. لذلك تلجأ سياسة التيسير الكمي إلى قناة أخرى، من خلال مبادلة الاحتياطي الفيدرالي النقد، بوصفه أصلا لا يدر عائدا، بالسندات الحكومية، بوصفها أصولا تدر عائدا. لكن المشكلة تحتاج إلى مبالغ كبيرة، حيث يرى بول كروجمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد في 2008، أن مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي سيحتاج إلى شراء ما قيمته من ثمانية إلى عشرة تريليونات دولار من هذه السندات؛ كي يصبح لسياسة التيسير الكمي تأثير في الاقتصاد الحقيقي.

والأثر الضار لهذه السياسة هو أن ضخ السيولة بشكل كبير واستثنائي سيفضي إلى زيادة التضخم المتوقع، من حيث إنه إذا كانت توقعات الشركات والمستثمرين تشير إلى ارتفاع معدلات التضخم في المستقبل، فإن ذلك سيولد لديهم الحافز لمزيد من الاستثمار في الوقت الحالي، لكن معدلات التضخم الحالية تعد منخفضة جدا، في الاقتصاد الأمريكي، الذي يعتبر الأكبر حجما على المستوى العالمي.

أما من جهة تخفيض قيمة الدولار، فلا شك أن سياسة التيسير الكمي ستعمل على تحسين وضع الميزان التجاري الأمريكي من خلال تخفيض قيمة الدولار، شريطة ألا تلجأ الدول الاقتصادية القوية الأخرى إلى إبطال هذه السياسة أو محاكاتها.

فقاعة أصول

في إثر قرار المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ضخ 600 مليار دولار لتحفيز الاقتصاد الأمريكي ارتفع صرف العملة الأوروبية اليورو مقابل الدولار، وارتفعت عملات أخرى، وخصوصا العملات مرتفعة العائد، حيث سجل الدولار الأسترالي أعلى مستوياته منذ 1982. ولوقف ارتفاع العملات بادرت اليابان إلى وقف صعود الين؛ كونه يضر بصادراتها الضخمة. وأعلنت البرازيل مجموعة من الإجراءات للحد من صعود عملتها، بالتدخل المباشر في الأسواق. فيما كشفت كولومبيا عن حزمة من الإجراءات لكبح جماح ارتفاع عملتها.

وحدث ارتفاع العملات العالمية بالتزامن مع تحقيق المعادن النفيسة مكاسب مهمة، وصعود أسعار النفط إلى مستويات قياسية. وبالرغم من ذلك، فإن بعض خبراء الاقتصاد حذروا من تداعيات الخطوة الأمريكية؛ كونها ستؤدي إلى زيادة سريعة في معدل التضخم، وخلق فقاعة أصول جديدة في الاقتصاد العالمي.

ولم يرق القرار الأمريكي لعديد من الدول الصناعية؛ كونه يدخل في إطار حرب العملات، حيث أعلن وزير المالية البرازيلي ''جيدو مانتيجا'' أن بلاده ستستخدم الاجتماع القادم لمجموعة العشرين للشكوى من قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي، القاضي بطبع مليارات الدولارات؛ كونه ''يفاقم الاختلالات الحاصلة في الاقتصاد العالمي، ومن غير المرجح أن يحفز النمو العالمي''. واعتبر رئيس البنك المركزي جنورمان شانج في هونج كونج أن حزمة التحفيز الاقتصادي التي أقرها مجلس الاحتياط الفيدرالي ''تزيد المخاوف من حدوث فقاعة عقارية في هونج كونج''، بينما يعتبر المسؤولون الصينيون أنه ما دامت لا توجد قيود على إصدار الدولار، فستحدث أزمة جديدة لا محالة.

الضعف الاقتصادي

تظهر معظم التقارير الرسمية الأمريكية أن الاقتصاد يعاني ضعف وتيرة نموه في المرحلة الراهنة، ولا يشجع على خفض معدلات البطالة، بالرغم من إنفاق مئات المليارات من الدولارات على مساعي وخطط إنعاش الاقتصاد الأمريكي؛ لذلك يعتبر بعض الخبراء الاقتصاديين أن تلك المساعي والخطط فشلت عمليا في تحقيق الهدف المطلوب منها، وتسببت في رفع قيمة الديون إلى جانب فشلها في تحقيق النمو. وفي هذا السياق ذكر تقرير لوزارة التجارة الأمريكية، أن الناتج المحلي الإجمالي نما بنسبة 1.7 في المائة في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري. في حين أن الخبراء يرون أن نموا اقتصاديا أقل من 2 في المائة يعد بطيئا لتحفيز الشركات على بدء التوظيف من جديد.

وأكدّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أن ضعف الاقتصاد الأمريكي أفضى إلى هزيمة حزبه الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي، التي أفضت عن سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب وقلّصت من أغلبية الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، واعتبر بعد ظهور نتائج الانتخابات أنه ''لم يتحقق تقدم كاف لتحسين الاقتصاد الأمريكي، خاصة من خلال زيادة فرص العمل''. وأعلن تحمله المسؤولية، وأن أفراد ''الشعب الأمريكي يتوقعون التركيز على تلك القضايا التي تؤثر على وظائفهم وأمنهم ومستقبلهم وخفض عجز الموازنة وتشجيع اقتصاد الطاقة النظيفة، إضافة إلى التأكد من أن أطفالنا يتلقون أفضل تعليم في العالم، وأننا نحقق استثمارات في التكنولوجيا تسمح لنا بالحفاظ على قدرتنا التنافسية في الاقتصاد العالمي''.

وإضافة إلى ضعف النمو الاقتصادي، فإن الولايات المتحدة، ومعها معظم دول الاتحاد الأوروبي، تواجه عجزا ماليا كبيرا؛ نظرا إلى ضخها كميات كبيرة من الأموال في الاقتصاد خلال العامين الماضيين، بغية مواجهة أسوأ موجة ركود منذ الحرب العالمية الثانية، كما تواجه حكومات هذه الدول الآن تحديا صعبا من أجل السيطرة على عجز الميزانية المتفاقم. وفيما أعلن المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية الأمريكي خروج الاقتصاد الأمريكي من أطول ركود اقتصادي شهدته البلاد منذ الحرب العالمية الثانية في حزيران (يونيو) من العام الماضي، إلا أن الخبراء يرون أن التداعيات ثقيلة، ويستبعدون أن يعود الاقتصاد الأمريكي إلى سالف نشاطه وقوته. ويبدو أن التعافي الطفيف للاقتصاد الأمريكي لا يمنع من أن يشكل أي تراجع جديد فيه ركود جديد.

وهناك تيار من الاقتصاديين الأمريكيين يتكهن بحدوث كارثة اقتصادية كبيرة لأول اقتصاد في العالم، تزامنا مع ارتفاع نسبة البطالة والعجز في الميزانية العامة. ويتزعم هذا التيار الاقتصادي نورييل روبيني، الذي دفعته الأزمة المالية العالمية إلى واجهة الشهرة؛ إذ إنه توقع حدوث أزمة الرهن العقاري، وما زال ''يبشر'' بالأسوأ، ويعتبر أن ''الولايات المتحدة استنفدت كل ذخيرتها، وأية صدمة صغيرة في هذه المرحلة يمكن أن تدفع بها إلى الانكماش''.


الكاتب :- عمر كوش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق