الثلاثاء، 7 يونيو 2011

الدم يعبد طريق التغيير في سوريا

مضى حتى الأن شهران على انطلاق حركة الاحتجاج في سوريا المطالبة باخراج البلاد من ضيق النظام المستبد والفاسد، الى رحابة النظام الديموقراطي الحر العادل، وما حدث على مدى هذين الشهرين كان فوق ما تحتمله الأحداث والمرحلة، وأفق الفكر السياسي في عالم اليوم .

لقد اعتمد النظام السوري الحل الأمني العسكري في مواجهة حركة الاحتجاج، واستخدم هذا الحل في أقصى أشكاله، مما أسفر عن وقوع نحو الف شهيد وقتيل حسب أوثق التقديرات، وأكثرها تحفظا، ولا نذكر هنا الجرحى والمعتقلين الذين صاروا بالالاف.


واعتمد النظام الانكفاء على الذات، فلم يعد يسمع إلا نفسه، ولم يعد يتطلع إلا في مرآته، فيرى أنه صاحب الحق الوحيد في فهم الأحداث وروايتها، وفي رسم الطريق الى الخروج من مآزقها.

ولقد جاءت تصريحات المسؤولين فيه، كأداء الاعلام لديه، تعبيرا عن هذه الزاوية التي وضع نفسه فيها، وجاءت إجراءات السلطة في التحرك السياسي لمواجهة متطلبات المرحلة في الإطار نفسه.

**الرواية الرسمية تتحدث عن قوى خارجية وسلفية وارهاب، ومؤامرة كبرى على سوريا لموقفها من القضية الفلسطينية ، وللممانعة التي عرف بها النظام، ولمواقف النظام التحررية.

**والرواية الرسمية تنفي وجود "شبيحة"، وتتحدث عن قناصة ومسلحين، يمارسون قتل الناس، ومن ضمن الناس الذين يستهدفونهم عناصر الأمن والجيش.
**والرواية الرسمية تأتي على مطالب الاصلاح باعتبارها مطالب القيادة السياسية نفسها، وأنها هي التي أطلقتها في"خطاب القسم"، وأن ما تقوم به الآن من خطوات إصلاحية تندرج في إطار هذا الادراك، وهذا الموقف.

وحين تتخذ القيادة السورية قرارا بتغيير الحكومة، أو تغيير هذا المسؤول في هذه المحافظة أو تلك، سواء كان هذا المسؤول إداريا أو أمنيا، أو تتخذ قرارا بالغاء حالة الطوارئ، أو ببدء البحث في قانون جديد للأحزاب، أو نظام انتخابي جديد، فإن هذا كله تقدمه كجزء من توجهها الأصيل في عملية الاصلاح.

لذلك يأتي حوارها الذي بدأته مع بعض رموز المعارضة من هذه الزاوية بالتحديد، من زاوية اليد العليا، اليد التي تحدد من تحاور، وعلى ماذا تحاور، وحدود هذا الحواروآفاقه، وحتى دوافعه.

إن مسافة كبيرة ما زالت تفصل بين أداء السلطة، وبين بداية التحرك المجدي لاخراج سوريا مما هي فيه، وكل ما تقوم به السلطة من تحرك ميداني باعتماد العنف والحل العسكري والأمني، أو سياسي باعتماد تغييرات معينة وفتح قنوات حوار واتصال مع بعض رموز المعارضة، لايقرب هذه المسافة ولا يحسر الهوة بين طرفيها، والسبب في ذلك أن السلطة كما أشرنا بدايةً، ما تزال تفكر وتتحدث وتحاور نفسها.

الوضع في سوريا في حالة استعصاء، ولقد أثبتت مشاهد الأيام السابقة أن شيئا مما فعلته السلطة على المستويين الأمني العسكري، والسياسي، لم يقدم شيئا، بل إن حمام الدم ما زال يتفجر رغم ما قيل عن توجيه مشدد من الرئيس السوري لأجهزة الأمن والجيش بعدم اطلاق النار على المتظاهرين، وهو توجيه يحمل في طياته الكثير مما يفسر حجم ما أريق من دماء على مدى الشهرين الماضيين .
والسؤال الذي يبحث عن جواب: هل انعدمت سبل الخروج بسوريا الى بر الأمان، وانتشالها مما هي فيه؟.

هل انسدت كل الافاق ولم يعد من سبيل إلا المضي في طريق العنف والحل الأمني والعسكري الى نهاياته؟.

البعض يقول إن المعركة في سوريا بين حركة الاحتجاج الشعبية، والسلطة، لم تعد قابلة لحل وسط، وصارت النهاية مرسومة بزوال أحد الطرفين، ويرى هذا البعض أنه كلما زاد حجم المعارضة، واتسعت جبهة المحتجين، يصبح من الصعب القضاء عليها، وإزالتها، فلا يبقى إلا زوال هذا النظام.

وأصحاب مثل هذا الطرح يدركون أن معنى ذلك الكثير من القتلى والضحايا، لكنهم يقولون: إن أي توقف في وسط الطريق سيكون مدمرا، وإن عودة النظام المستبد القمعي والفاسد الى تمكين نفسه سيجعله أكثر شراسة، وأكثر عنفا، وسيذوق السوريون حينئذ نوعا من الاستبداد والقهر لايقاس بما مضى، ويستدلون على ذلك بما ورد في تصريحات رامي مخلوف في مقابلة صحفية منسوبة اليه بشأن السير بهذا الصراع الى نهاياته، وهي تصريحات شديدة الخطورة في مضمونها ودلالاتها ومآلاتها، وهي تعطي منطق القطاع "الأمريكي والمتصهين" من المعارضة الخارجية، قوة ومصداقية كان وما زال يفتقدها.

ويتجند أصحاب هذا الرأي في حتمية الوصول بهذا الصراع الى نهاياته، بتطور الشعارات التي طرحت في حركة الاحتجاج، التي كانت بداية تطالب بالحرية والاصلاح، ووصلت مع ازدياد عمليات القتل، والعنف السلطوي، الى شعار اسقاط النظام، وانهاء كل مكوناته.

وإذا كان هذا الرأي يمثل قطاعا من حركة المعارضة يزداد وزنا، كما أوغلت السلطة في هذه الطريقة في التعاطي مع هذا الوضع، ومع هذه المطالب، فإن هذا البعض لايمثل كل الرأي المطروح في ساحة المعارضة، فالمعارضة السياسية الوطنية ـ وهي موجودة في الداخل أساسا ـ، بتراثها وتجربتها، وبالتزامها بالانتقال السلمي بسوريا الى مجتمع حديث مدني ديموقراطي، تقدم طريقا آخر يتيح للسلطة القائمة، كما يتيح لكل القوى السياسية والشعبية والمدنية في سوريا المشاركة في صنع هذا الطريق، والمساهمة في بناء صورة سوريا المستقبل، ويتيح لسوريا الشعب والوطن، أن تخرج إلى بر الأمان، وبأقل الخسائر.

ويقوم هذا الطريق على التمسك بسلمية التحرك الشعبي الاحتجاجي، وبالدعوة الى استمراره واتساعه، باعتبار أن من شأن ذلك أن يفرض على النظام الانصياع الى مطالب هذه الحركة، وأن يساعد أيضا صاحب القرار فردا كان أو مؤسسة على التحرك في الإستجابة للمطالب الشعبية، وأن يعلي من شأن القوى الناعمة في النظام السوري إذا أرادت أن تدفع صاحب القرار للاستجابة الى هذه المطالب، والدخول بسوريا الى الطريق الآمن في التغيير.

لكن هذه المعارضة وهي تلتزم هذا النهج، وتتطلع الى من يلتزم به، لاتضع جميع أطراف الأزمة على ذات المستوى من المسؤولية، وإنما هي ترى أن المسؤولية الحقيقية في ولوج طريق التغيير الآمن يقع على عاتق السلطة، فهي المالكة للدولة والمسيطرة علي مقدراتها، وهي المسؤولة دستوريا عن ذلك، ويأتي في قمة هذه السلطة رئيس الجمهورية، بل هو في إطار النظام الجمهوري الرئاسي صاحب المركز الأهم والمسؤول الأول، وحين يُطلب شيء من النظام، فإنه يُطلب منه أولا وأخيرا.

إن غزارة الدم الذي يراق بفعل المنهج الأمني المتبع، والذي يخلف إصرارا شعبيا على استمرار الاحتجاجات وتصعيدها، لايمكن أن يخفي تطلعا سوريا عاما لوقف حمام الدم هذا، ولبدء التحرك على طريق المستقبل، لكن تصاعد الاحتجاجات على مدى الشهرين الماضيين، يؤكد أن ثقة الشارع بجدية تحرك السلطة لمواجهةٍ حقيقيةٍ للأزمة باتت مفقودة، وأن المطلوب من السلطة خطوات حقيقية تعيد هذه الثقة، وتضع سوريا على بداية الطريق الصحيح، ولعل من هذه الخطوات:-

1ـ أن يعبر النظام وبشكل لا لبس فيه عن قناعته بأن الأزمة الحقيقية في سوريا مبعثها خمسون عاما من إقصاء الناس عن موقع القرار، واستئثار فئة بهذا القرار على اختلاف المسميات التي ظهرت فيها، أي أن الاستبداد سبب رئيس في الأزمة الراهنة.

2ـ أن يعبر النظام عن قناعته بأن الفساد في سوريا ليس أمرا عارضا يمكن مواجهته بالأساليب التقليدية ـ كما في المجتمعات الأخرى ـ، وإنما بات يحيط بكل شيء، وأنه مسؤول أساسي عن حالة العطالة التي عاشتها أجهزة الدولة المكلفة أصلا بمحاربة الفساد من قضاء، وصحافة، ورأي عام.

3ـ إعلان النظام أن البحث عن حلول للخروج من هذه الحالة، يتطلب التحرر من الصيغ والمؤسسات التي أوصلت البلاد الى هذه الحالة، فليست الحكومة، ولا مجلس الشعب، ولا الحزب الحاكم، هم المرجعية في تحديد طريق الخروج ولا آلياته. ففي هذه المؤسسات صنع الاستبداد، ومن هذه المؤسسات انتشر الفساد وتمكن.

4ـ إعلان النظام أن الحل الوحيد الممكن لطريق آمن في التغيير والوصول بالوطن كله الى المستقبل يرتسم عبر مؤتمر وطني عام يضم كل فعاليات الشعب السوري : أحزابه، منظمات المجتمع المدني فيه، القوى الشعبية والشبابية، التي حركت هذه الاحتجاجات وقامت بها،

5ـ والمدخل لكل ما سبق أن يمهد النظام لذلك بإجراءين أساسيين :-

**الأول: وقف نهائي للمنهج الأمني العسكري في التعامل مع الإرادة الشعبية ومطالبها واحتجاجاتها، وإعادة الجيش الى مواقعه الحقيقية، ومهماته الوطنية التي وجد لأجلها دستوريا وعرفا.

**الثاني: إطلاق سراح معتقلي الرأي والمعتقلين بسبب موجة الاحتجاجات المستمرة منذ الخامس عشر من مارس، دون قيد أوشرط.

إن مثل هذا التحرك من السلطة سيكون بمثابة تغيير جوهري في رؤيتها للأزمة الراهنة، وفي طريق التعامل معها، ولن يكون من قبيل الأماني الظن أنه سيخلف تغييرا في حركة الشارع السوري، وفي شعاراته.

**وسيكون على هذا المؤتمر الوطني العام أن يؤسس لعقد اجتماعي جديد، يجتمع عليه أبناء سوريا، يحددون من خلاله دستورهم الجديد، ومكانتهم في أمتهم العربية، والتزاماتهم تجاه قضاياها الرئيسية، ويتحدد فيه مكانة أجهزة الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية والاقتصادية، من الوطن والمواطن واحتياجاتهما.
**وسيكون على هذا المؤتمر أن يرسم طريقا للمصالحة الوطنية تطوى فيها صفحة الماضي القاتمة ومخلفاتها، وتوطد فيها أركان الوحدة الوطنية التي لايمكن بناء سورية المستقبل دونها.

**سيكون على هذا المؤتمر أن يحدد مفهوما جديدا، وأصيلا، للخدمة العامة، أو الوظيفة العامة، يكون فيها المسؤول أيا كانت درجته، من أدنى المراتب وصولا الى رئيس الجمهورية، أجيرا عند هذا الشعب المعلم والقائد، وخادما أمينا على مصالحه وشؤونه، إن أحسن فهذا واجبه، ويشكر على إحسانه، تشجيعا لمن دونه على اعتماد الإحسان في العمل، وإن قصر أو اساء فيحاسب لتقصيره، وردعا لأي مسؤول يقصر في عمله و يخون أمانته.

إن المهتمين بالشأن السوري، والمنتمين الى هذا البلد ومستقبله، يدركون أن قوى حقيقة تملك أدوات الفعل والتأثير على اختلاف أوزانها، داخل السلطة وخارجها، لا تريد لسوريا أن تخطو في هذا الاتجاه، وهي ترى في استمرار نزيف الدم، استمرارا لحالة الاستعصاء التي تعيشها سوريا حاليا، وتتغذى عليها قوى التطرف داخل النظام ومؤسساته وخارجها.

إن هذه القوى تتغذى وجودا وفاعلية على دم المواطن السوري، لايهمها عدد الاف السوريين الذين تراق دماؤهم، ما دام من شأن ذلك أن يوصلها الى أهدافها، أوأن يمكنها من الإحتفاظ بمصالحها وامتيازاتها.

ووجود هذه القوى ـ ووجودها لا يخفى على ناظرـ يجب أن يمثل دافعا اضافيا لأصحاب القرار والمسؤولية في السلطة السورية، لانتهاج هذا السبيل، وقطع الطريق على تلك القوى، فكل يوم يمر دون سلوك هذه السبيل، يمثل فرصة ضائعة تمكن لقوى التطرف، وتكسبها أرضية إضافية، وتدفع بالوضع الى هاوية جديدة يعبدها دم سوري طاهر وزكي.

ليست القضية هنا أن نمحص في رواية السلطة عن المؤامرة الخارجية التي تتعرض لها البلاد، إذ يمكن للبعض أن يقبلها كما هي، أو يقبلها جزئيا، أو يرفضها، ليست هذه هي المشكلة، فسوريا كانت دائما هدفا للمؤامرات، ومن السذاجة أن يتصور أحد عدم تدخل الخارج، والمرتبطين به، في مجرى الأحداث التي تعصف بالبلاد، في محاولة للإستفادة منها وحرفها عن مسارها.

لكن السؤال هنا: كم لهذا الخارج من تأثير في مجرى حركة الاحتجاج، وفي دعوات التغيير التي تحرك الشارع السوري من أقصاه الى أقصاه؟!،

هذا هو المهم في رؤية الحدث ومساره، ومن هذه الزاوية فإن حركة الاحتجاج ومطالب التغيير شعبية بلا شك، وتعبر عن حاجة موضوعية طال انتظارها، وكل تعامل على خلاف هذه الحقيقة هو تعامل ينقصه الاخلاص، كما يفتقد الى الجدية، وصاحب اليد العليا في التعامل مع الوضع، والمسؤول الحقيقي عن ذلك، هو السلطة بما تملك.

لذلك نقول إن كل قطرة دم تراق، إنما تقع مسؤوليتها أولا على السلطة وأصحاب القرار الحقيقي فيها، وكل يوم يضيع دون الولوج الى الطريق الأمن، تقع المسؤولية عنه على السلطة، وأصحاب القرار الحقيقي فيها، وكل أذى يصيب قضايا النضال الوطني والقومي جراء انتهاج النظام الطريق الأمني والعسكري في التعامل مع مطالب الشعب في التغيير، لايتحمل وزرها إلا النظام وأصحاب القرار الحقيقي فيه.

ولا يشك المتابعون والمهتمون بالشأن السوري أن المتاح من الوقت لانتهاج السبيل الآمن يتآكل بسرعة، وأن ما هو ممكن اليوم قد لايكون كذلك غدا، وأن الخاسر حينئذ سيكون الشعب السوري، والجغرافيا السورية، والمستقبل السوري.

الكاتب :- د.مخلص الصيادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق