الأربعاء، 4 مايو 2011

القصة الكاملة للعرض الإيراني السري

على الرغم من أن معظم السيناريوهات والكتاب يتحدثون بإسهاب مطلق عن الخيار العسكري، ويشيرون إلى هذا الاحتمال بنسبة كبيرة, إلا أن هناك من يرى أن الهدف من التصعيد الثنائي الحاصل حاليا، هو فتح باب للتفاوض الدبلوماسي المباشر بين إيران وأميركا، وإن كان لكل منهما شروطه التي يريدها من الآخر قبل الجلوس إلى طاولة الحوار.


تتسارع الأحداث والتطورات في منطقة الخليج العربي بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران في الآونة الأخيرة, وينذر التصعيد المتسارع بين الطرفين، بوقوع حرب كارثية لا تبقي ولا تذر.
وعلى الرغم من أن معظم السيناريوهات والكتاب يتحدثون بإسهاب مطلق عن الخيار العسكري، ويشيرون إلى هذا الاحتمال بنسبة كبيرة, إلا أن هناك من يرى أن الهدف من التصعيد الثنائي الحاصل حاليا، هو فتح باب للتفاوض الدبلوماسي المباشر بين إيران وأميركا، وإن كان لكل منهما شروطه التي يريدها من الآخر قبل الجلوس إلى طاولة الحوار.
الولايات المتحدة تريد أن تفرض هذا الخيار عبر التهديد بقوتها العسكرية الضخمة, في حين تقوم إيران باستخدام أوراقها "النووية" والإقليمية "في لبنان والعراق وفلسطين وعدد آخر من الساحات"، من أجل جر أميركا للتفاوض وفق شروطها.
وبين هذا وذاك، تصل المنطقة إلى ما نراه اليوم. من هذا المنطلق, نعرض في هذا التقرير المسهب القصة الكاملة للمساومات الإيرانية-الأميركية منذ العام 2001م، مرورا بالعرض الإيراني السري الذي تقدمت به إيران في العام 2003م إلى الولايات المتحدة للتفاوض عليه، والذي يجري الحديث عن إعادة إحيائه حاليا، مقابل الخدمات "الجليلة" التي أدتها لأميركا في احتلال أفغانستان والعراق, وكيف قاد الرفض الأميركي في مناقشة العرض إلى تطور النزاع بين الطرفين، واستعانة إيران بالملف النووي وحزب الله، كورقة للضغط لجر أميركا للموافقة على مناقشة العرض, وكيف سعت واشنطن إلى تجريد إيران من أوراقها قبل طرح الموضوع للنقاش, وصولا إلى التطورات والأحداث التي تجري اليوم على ارض الواقع.
* إدارة بوش الجديدة وبداية الحكاية:
عندما استلمت الإدارة الأميركية الحالية مقاليد السلطة بعد انتهاء فترة "الرئيس بيل كلينتون", كانت هناك مجموعتان تتصارعان لرسم سياسة محددة تجاه إيران. لقد كان ريتشارد أرميتاج، وكيل وزارة الخارجية الأميركية، والمقرب جدا من وزير الخارجية كولن باول، بطل المجموعة التي تريد فتح قنوات دبلوماسية وحوارية مع طهران.
أقام ارميتاج في إيران لعدة أشهر في العام 1975م، بصفته عضوا في فريق وزارة الدفاع الأميركية، مهمته عرقلة أو كبح جماح شراء الشاه لكمَ هائل من الأسلحة، خوفا من تضخم قدراته العسكرية, وقد كان أرميتاج منذ تلك اللحظة مهتما جدا بإيران, وقام خلال توليه منصب وكيل وزارة الخارجية، باستقدام "ريتشارد هاس"، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، وذلك من أجل رسم سياسة جديدة تجاه إيران.
عمل "هاس" لأربع سنوات في فريق الأمن القومي لإدارة الرئيس بوش، رئيسا لقسم الشؤون الخارجية في منطقة الشرق الأدنى وجنوب آسيا, سعى خلالها ومنذ صيف العام 2001م، إلى استكشاف إمكانية الانخراط مع إيران دبلوماسيا عبر تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وفق قانون العقوبات الليبي - الإيراني كخطوة أولى. لكن وبينما كان هذا الفريق يمهد الطريق لخط دبلوماسي مع إيران, حصلت هجمات 11 سبتمبر 2001م، الأمر الذي غير مفهوم الانخراط الأميركي مع إيران كليا.
* 11 سبتمبر وغزو أفغانستان: بوابة الاتصال الإيراني مع أميركا
بعد الهجوم الكبير، الذي شنته تنظيم القاعدة مباشرة, اجتمع المحلل في وكالة المخابرات المركزية "السي أي ايه"، والخبير في شؤون مكافحة الإرهاب، فلاينت ليفيرت، ترافقه مجموعة عمل صغيرة مع وزير الخارجية كولن باول, حيث تم اقتراح فتح قنوات مع الدول الداعمة للإرهاب، والتي لن يكون باستطاعتها في هذه اللحظة أن تظهر الجانب السلبي لها، لأن الولايات المتحدة ستخوض حربا عالمية ضد الإرهاب بشرعية كاملة من الأمم المتحدة.
وخلال أسابيع قليلة، اتصلت كل من إيران, سورية, ليبيا والسودان بالولايات المتحدة عبر قنوات مختلفة، عارضة مساعدة الولايات المتحدة في القضاء على القاعدة.
وذكر ليفيرت حينها، أن الإيرانيين أبلغوه أنهم يكرهون القاعدة أكثر منهم، وأن لإيران مصلحة وثأر في القضاء عليها, وأن بإمكان طهران أن تساعد الولايات المتحدة عبر القنوات والمصادر المهمة التي تمتلكها في أفغانستان، والتي من الممكن أن تكون مفيدة لها في هذا الموضوع إذا أراد الأميركيون التعاون.
إذ كانت الحكومة الإيرانية من أوائل حكومات العالم التي دانت الهجوم، إن لم تكن أولهم. فقد سارع الرئيس الإيراني محمد خاتمي آنذاك بإدانة هذه التفجيرات بعد ساعات فقط من وقوعها, ولأول مرة منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979م، تم إيقاف شعار "الموت لأميركا" في خطبة الجمعة المركزية في طهران.
وأدان "محسن أرمين"، نائب رئيس مجلس الشورى الإيراني التفجيرات، واصفًا إياها بالعمل الإجرامي غير المقبول, وقام 165 عضوًا من أعضاء مجلس الشورى، البالغ عدده 290 عضوًا، بالتوقيع على وثيقة أعربوا فيها عن تعاطفهم مع الشعب الأميركي, وطالبوا بحملة دولية لمكافحة الإرهاب, وقد بعث كل من "محمد عطريا نفر", رئيس مجلس مدينة طهران, ومرتضى الويري, رئيس بلدية طهران برسالة إلى عمدة نيويورك, رودولف جولياني، جاء فيها: "لقد استقبلنا الأعمال الإرهابية الأخيرة التي راح ضحيتها الكثير من المواطنين الأبرياء ببالغ الأسى والحزن, ومما لا شك فيه أن هذه الأعمال لا تستهدف مواطني مدينتكم فقط, بل إنها تستهدف كل مواطني العالم, ونحن نيابة عن مواطني مدينة طهران ندين وبشدة هذه الأعمال غير الإنسانية ومرتكبيها, ونقدم خالص مواساتنا لسيادتكم ولمجلس المدينة ولكل مواطني نيويورك الأعزاء, آملين أن يتم استئصال جذور الإرهاب".
لقد كانت تلك اللحظة بداية لفترة مميزة جدا وغير عادية من التعاون الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإيران. وبينما كانت الولايات المتحدة تستعد للهجوم على أفغانستان, قام مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، "ريان كروكر"، بعقد سلسلة من الاجتماعات السرية مع مسؤولين رسميين إيرانيين في جنيف - سويسرا.
في هذه الاجتماعات، تم التباحث عما تستطيع إيران تقديمه من مساعدة في الهجوم المرتقب على أفغانستان, وقد اقترح الإيرانيون تقديم أربع أنواع من المساعدة، وهي:
1- نشر فرق للبحث والإنقاذ لمساعدة الأميركيين على طول الحدود مع أفغانستان وداخلها إذا اقتضى الأمر.
2- تقديم المساعدات الإنسانية.
3- والأهم من كل هذا، إعطاء الأميركيين معلومات وبيانات وإحداثيات لأهم المواقع التي يجب عليهم قصفها في أفغانستان، كما عرضت على الأميركيين الكثير من النصائح بشأن التفاوض مع المجوعات الاثنية والعرقية الرئيسية في البلاد ومع التوجهات السياسية، بعد الإطاحة بنظام طالبان من خلال خبرتهم الناجمة عن دعم تحالف الشمال ضد حركة طالبان لفترة طويلة.
استمر زخم التقارب الإستراتيجي بين الأميركيين والإيرانيين بالصعود في نوفمبر وديسمبر من العام 2001م. في أوائل ديسمبر, وخلال مؤتمر "بون"، الذي عقد بعد الإطاحة بنظام طالبان لتنصيب حكومة جديدة للبلاد, ضغط الإيرانيون على حلفائهم في تحالف الشمال، لتقليل المطالبة بعدد أكبر من المقاعد, كما حرصت إيران على أن يتضمن الاتفاق الختامي، عبارة محاربة الإرهاب.
جاء ذلك بعد عرض إيراني قدمه د. محسن رضائي، الأمين العام لمجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران، خلال حديثه في فضائية الجزيرة، عندما قال: "إن الخلاص منه ـ أي المستنقع الأفغاني ـ يجب أن يمر عبر إيران, وإذا وصلت أميركا إلى طريق مسدود في أفغانستان، لابد وأن تحصل على طريق للخلاص من هذا الطريق المسدود, فإيران طريق جيد, وإيران يمكن بشتى الطرق أن تحل هذا الطريق, وتخلص المنطقة من الأزمة الحالية, وتنتهي هذه الأزمة".
وقد أشاد المبعوث الخاص الأميركي جيمس دوبنز بالدور الإيراني والتعاون الكامل آنذاك، وكذلك فعل المحلل في وكالة المخبرات المركزية "سي أي ايه"، والخبير في شؤون مكافحة الإرهاب، فلاينت ليفيريت، قائلا: "ما كان لاجتماع ـ بون ـ أن ينجح لولا التعاون الإيراني الكبير, لقد كان لهم فعلا نفوذ كبير على حلفائهم، واقترحوا علينا استثمار هذا النفوذ التابع لهم لصالح التعاون والتنسيق الدائم بين إيران وأميركا".
ونظرا للتعاون الإيراني المنقطع النظير في مرحلة تاريخية حرجة للولايات المتحدة, قام مكتب التخطيط السياسي الأميركي بإعداد تقرير في نهاية نوفمبر، يقترح اغتنام "فرصة حقيقة"، لقيام تعاون كبير بين إيران والولايات المتحدة ضد القاعدة. لقد اقترح التقرير تبادلا للمعلومات وتنسيقا مشتركا على الحدود، خاصة وأن إيران، باستطاعتها تأمين معلومات استخبارية تكتيكية بشكل ممتاز. وقد دعم هذا الاقتراح آنذاك كل من المخابرات المركزية ومنسق مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض، وايني داونينغ.
لقد كانت الإستراتيجية، التي تبناها كل من هاس وليفيريت بدعم من ريتشارد أرميتاج وكولن باول، تقتضي استغلال رغبة الدول المدرجة على لائحة الإرهاب في التعاون مع الولايات المتحدة، خاصة سورية وإيران، وذلك من أجل إحداث تغيير جذري في السياسيات معها، واستغلال المفاوضات معها من أجل فتح حوار حول دعمها للمجموعات الإرهابية، للوصول إلى مساومات تقتضي شطبهم من لائحة الدول الداعمة للإرهاب إذا نفذوا ما يطلبه الأميركيون منهم بهذا الشأن.
مع إيران, فإن هذه المحادثات كان يمكن لها أن تتطرق لأمور أخرى، من بينها البرنامج النووي الإيراني.
لقد كان فريق التخطيط السياسي المذكور يعد لجميع الخيارات والمستويات، التي من الممكن إن تُدرج ضمن بنود التفاوض، والمنافع التي يمكن أن تقود إليها مثل هذه المفاوضات مع إيران للطرفين, حيث تتراوح العروض من دعم عضوية إيران في منظمة التجارة العالمية، وصولا إلى إعطائها ضمانات أمنية.
وقد وصف ويلكرسون، رئيس الفريق المساعد لوزير الخارجية الأميركية آنذاك لـ كولن باول، الخطة بأنها اتفاق حقيقي كبير.
تم اعتبار الفترة الممتدة بعد 11 سبتمبر 2001م، من أكثر الفترات الواعدة والايجابية للانفتاح الإيراني على أميركا منذ انقطاع العلاقات بين البلدين في العام 1979م، وقد كشفت إيران فيما بعد عن مدى هذا التعاون بينها وبين أميركا، والخدمات الجليلة التي قدمتها لها في محاول للتقرب من "الشيطان الأكبر", إذ نقلت وسائل الإعلام في 9/2/2002م عن رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الرئيس الإيراني السابق; علي أكبر هاشمي رفسنجاني، قوله في يوم 8 فبراير في خطبته بجامعة طهران: "إن القوات الإيرانية قاتلت طالبان, وساهمت في دحرها, وإنه لو لم تُساعد قواتهم في قتال طالبان لغرق الأميركيون في المستنقع الأفغاني...يجب على أميركا أن تعلم أنه لولا الجيش الإيراني الشعبي ما استطاعت أميركا أنْ تُسْقط طالبان".
ونقلت الوكالات فيما بعد في 15 مارس 2002م عن صحيفة "نوروز" الإيرانية، ما أكده نائب رئيس مجلس الشورى الإيراني الإصلاحي، محسن أرمين، عن "وجود اتصالات مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران, وأن هذه الاتصالات لطالما كانت قائمة في السنوات الماضية, وبحسب مصادر سياسية في إيران، تمت مثل هذه "الاتصالات" خلال الأشهر الماضية في عدد من الدول الأوروبية".
لكن حصلت استدارة أميركية فيما بعد عبر المحافظين الجدد في البيت الأبيض. ووفقا للخبير بالشؤون الإيرانية والمؤرخ غارثر بورتر, فقد عرقل المحافظون الجدد هذا الانفتاح، وتبخرت كل خدمات إيران، عندما تم وضعها في لائحة محور الشر، كما أراد الرئيس بوش رغم معارضة مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايز ونائبها ستيفن هادلي لذلك, فيما ساند كل من نائب الرئيس ديك تشيني, ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد واليميني دوغلاس فيث توجهات بوش تجاه إيران".
وفي ذلك الوقت, تم تسريب العديد من الأخبار عن أن إيران تقوم بتهريب عناصر القاعدة المنسحبين من أفغانستان، وتسهيل دخولهم إلى أراضيها. لكن وفقا للمحلل في وكالة المخبرات المركزية "السي أي ايه"، والخبير في شؤون مكافحة الإرهاب فلاينت ليفيريت، والذي التقى مسؤوليين رسميين إيرانيين في جنيف مرات عديدة, فإن الحقيقة كانت أن الإيرانيين قد اتخذوا خطوات كبيرة وتعانوا بشكل فعال مع واشنطن, وأن هذا التسريب عن تعاون إيران مع القاعدة، كان يهدف إلى ضرب الانفتاح الإيراني.
يقول ليفيريت: حتى إن الإدارة الأميركية، طلبت من الإيرانيين آنذاك أن يزيدوا من عدد حراس الحدود على تلك الجبهة لرصد عناصر القاعدة ومواجهتهم في ذلك الوقت, فقامت إيران بالاستجابة فورا لهذا الطلب, بل إنها استجابت أيضا لطلب واشنطن حجز أي شخص من الواردة أسماؤهم على لائحة تم تقديمها للإيرانيين, وطلبت واشنطن من إيران أن تمنع هروب أي من الواردة أسماؤهم في القائمة، والذين من الممكن أن يكونوا قد دخلوا إيران سرا, فقامت إيران بتعميم أسمائهم على الحدود تلبية لطلب واشنطن.
انعكس التراجع الأميركي على الوضع الإيراني, ورأت إيران أنها لم تحصل على شيء مهم مقابل ما قدمته للإدارة الأميركية من خدمات جليلة وكبيرة جدا، ما كان باستطاعة أحد في المنطقة أن يقدمها, فانعكس ذلك بشكل سلبي على القيادة الإيرانية، وأعلن آية الله "علي خامنئي" في مايو من العام 2002م، أن المفاوضات مع الولايات المتحدة أمر عديم الفائدة.
* الفرصة الإيرانية الثانية: مساعدة أميركا في غزو العراق مقابل الحصول على مكاسب إستراتيجية
شكلت الحرب المرتقبة على العراق فرصة أخرى لقيام كل من إيران والولايات المتحدة بفتح قنوات اتصال بينهما. فقد اعتقدت إيران أن الفرصة سانحة لإعادة اختبار الموقف الأميركي، الذي يحتاج إلى إيران بشدة في مثل هذه الظروف, وبالتالي إمكانية كسب صفقة مهمة جدا مع الأميركيين على حساب العراق والمنطقة.
وبالفعل، فقد انقلبت الحسابات الإيرانية بشكل دراماتيكي من جديد، عندما قررت الولايات المتحدة غزو العراق.
ففي أواخر العام 2002م، قام السفير الأميركي في أفغانستان زلماي خليل زاد بعقد اجتماعات مع مسؤولين حكوميين إيرانيين في جينيف ـ سويسرا عبر دبلوماسية الأبواب الخلفية، التي تشتهر إيران بها منذ الثورة الإسلامية, طالبا المساعدة في نقطتين اثنتين مبدئيا:
ـ الأولى، تتمحور حول مساعدة إيران لأي طيار أمريكي تسقط طائرته في الأراضي الإيرانية خلال الهجوم على العراق.
ـ أما الثاني، فيتمحور حول الطلب من إيران عدم إدخال أي قوات أو ميليشيات إلى العراق خلال الهجوم.
وقد وافقت إيران على هذين المطلبين، مقابل وعد أولي من قبل زلمان خليل زاد، بأن لا يتم مهاجمة إيران بعد الإطاحة بنظام صدام حسين.
وعلى الرغم من التعاون الإيراني والاستجابة الأميركية, كان هناك شك لدى كل طرف بنوايا الطرف الآخر، وأنه يبيت له. لقد كان هناك اقتناع لدى المسؤولين في مجلس الأمن القومي الإيراني، أن الولايات المتحدة ما إن تنتهي من العراق وتتمركز فيه وتستقر، حتى تبادر إلى الهجوم على إيران.
وقد أكد ذلك تريتا بارسي، المتخصص في السياسة الخارجية الإيرانية في جامعة "جون هوبكنز" للعلاقات الدولية المتقدمة, وقد التقى عددا كبيرا من المسؤولين الإيرانيين، وأجرى معهم عددا من اللقاءات والمقابلات، ومن بينهم رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني ووزير الخارجية الإيرانية أيضا, حيث نقل وجهة نظرهم القائلة: "إذا لم نفعل شيئا الآن, فستكون إيران التالية".
رأى المسؤولون الرسميون الإيرانيون، أن الفرصة الوحيدة لكسب الإدارة الأميركية تكمن في تقديم مساعدة أكبر وأهم لها في غزو العراق عبر الاستجابة لما تحتاجه, مقابل ما ستطلبه إيران منها, على أمل أن يؤدي ذلك إلى عقد صفقة متكاملة، تعود بموجبها العلاقات الطبيعية بين البلدين وتنتهي مخاوف الطرفين.
عمل الإيرانيون على استغلال فترة الهجوم الأميركي على العراق من أجل طرح "صفقة" مع الولايات المتحدة، تمهد الطريق أمامهم لتحسين العلاقات والتفاوض لمصلحة إيران.
وبالفعل في بداية عام 2003م، كان الإيرانيون يعتقدون أنهم يمتلكون ثلاث عناصر جديدة، تخولهم دفع وجر أميركا للتفاوض، وهي:
أولا: النفوذ الإيراني الكبير في عراق ما بعد صدام, من خلال الميليشيات والأحزاب السياسية الشيعية والمنظمات الشيعية العسكرية التي تم تدريبها في إيران، والتي عادت إلى العراق لتنخرط في إطار الحكم.
ثانيا: قلق إدارة بوش المتزايد حول البرنامج النووي الإيراني.
ثالثا: رغبة الأميركيين في استجواب عناصر تنظيم القاعدة، الذين قامت إيران باحتجازهم في العام 2002م.
وبينما كان الأميركيون يغزون العراق في ابريل من العام 2003م، كانت إيران تعمل على إعداد "اقتراح" جريء ومتكامل، تتضمن جميع الموضوعات المهمة، لتكون أساسا لعقد "صفقة كبيرة" مع الأميركيين عند التفاوض عليها لحل النزاع الأميركي ـ الإيراني.
قام "صادق خرازي"، سفير إيران في فرنسا آنذاك، وهو قريب وزير الخارجية الإيراني "كمال خرازي"، بصياغة مسودة "وثيقة الاقتراح"، وقد حصلت هذه المسودة على موافقة مباشرة من القادة الإيرانيين، وعلى رأسهم المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية "علي خامنئي".
ومن أجل التأكيد على أن هذه الوثيقة هي اقتراح رسمي جاد من إيران, تم إرفاقها برسالة تبين موافقة المرشد الأعلى للجمهورية شخصيا عليها, وتم تسليمهما إلى السفارة السويسرية في طهران (والتي تلعب دور راعي المصالح الأميركية بعد انقطاع العلاقات الدبلوماسية الثنائية الإيرانية-الأميركية) إلى شخص السفير "تيم غولديمان"، الذي لعب دور الوسيط، وقام بنقلها إلى الإدارة الأميركية.
وقد أكدت المقابلات التي أجراها تريتا بارسي مع مسؤولين رسميين إيرانيين في أغسطس من العام 2004م، موافقة وانخراط المرشد الأعلى علي خامنئي على هذه الوثيقة وقبوله بالصفقة.

(يتبع)

تشير بعض المصادر إلى أن سبب الإهمال أو الرفض الأميركي، هو أن العرض لم يكن رسميا، ولم يكن باستطاعة الجهات الأميركية التمييز بين ما قامت إيران بطرحه وبين ما أضافه السفير السويسري الوسيط، "تيم غولدمان", معتبرة أنه كان مجرد بالون اختبار، لابتزاز الولايات المتحدة مقابل الحصول على مكتسبات كبيرة جدا.


العرض الإيراني السري: نعترف بإسرائيل ونتنازل عن النووي ونوقف دعم حزب الله، مقابل منحنا الوصاية على الخليج، والاعتراف بنا: قوة إقليمية شرعية.
تم إرسال العرض الإيراني أو الوثيقة السرية إلى واشنطن، في الوقت الذي كان يجتمع فيه كل من مبعوث إيران لدى الأمم المتحدة، جواد ظريف، مع خليل زاد في جنيف ـ سويسرا في 2 مايو 2003م، وقد وصلت نسخة من الاقتراح-الوثيقة إلى وزارة الخارجية الأميركية عبر الفاكس, ونسخة أخرى تم تسليمها لوسيط أميركي شخصيا.
عرضت إيران أيضا في هذا الاجتماع الثنائي الخاص، قيامها بعمل حاسم وسريع ضد أي مجموعات إرهابية توجد على أراضيها، وخاصة فيما يتعلق بالقاعدة. ومقابل ذلك طالبت إيران الولايات المتحدة بعمل حاسم ضد المجموعات الإرهابية الإيرانية، سيما منظمة مجاهدي خلق (منظمة مجاهدي خلق المعارضة للنظام الإيراني الحالي، وكانت الولايات المتحدة أدرجتها على قائمة المنظمات الإرهابية خلال فترة كلينتون، وذلك في محاولة لتحسين العلاقات الثنائية آنذاك, ومازالت على القائمة)، التي قاتلت إلى جانب الجيش العراقي في الحرب مع إيران, وأن تقوم الولايات المتحدة باتخاذ الإجراءات المناسبة السريعة فيما يتعلق بأعضاء المنظمة الموجودين على أراضيها.
وفي هذا الاجتماع الخاص, اقترح جواد ظريف تبادل المعلومات بين الطرفين حول تنظيم القاعدة ومنظمة مجاهدي خلق في اتفاق منفصل. ووفقا لـ فلاينت ليفيريت, فإن ظريف عرض على خليل زاد، تسليم الولايات المتحدة قائمة بأسماء قياديي القاعدة المحتجزين في إيران, مقابل الحصول على لائحة بأسماء أعضاء منظمة مجاهدي خلق، الذين أسرتهم أميركا في العراق.
أما بالنسبة إلى العرض الإيراني السري, فقد كانت الدائرة المطلعة عليه، سواء من الجانب الإيراني أو من الأميركي، ضيقة جدا, والسبب في ذلك، حسبما أشار أحد المسؤولين الإيرانيين، حتى لا تتحول الصفقة إلى فضحية إيران-غيت ثانية.
يقول غارثر بورتر، وهو مؤرخ وصحافي متخصص في الكتابة عن السياسة الأميركية تجاه إيران, ويبدي تعاطفا شديدا تجاهها، وانتقادا لاذعا للإدارة الأميركية لعدم التعاون معها وتنمية العلاقات المشتركة للبلدين, وهو أحد القلائل الذين اطلعوا شخصيا على الوثيقة، إلى جانب المتخصص في السياسة الخارجية الإيرانية في جامعة جون هوبكنز للعلاقات الدولية المتقدمة، تريتا بارسي: "تعترض الوثيقة المؤلفة من صفحتين على الخط السياسي الرسمي لإدارة جورج بوش، باتهام إيران بالسعي إلى تدمير إسرائيل، ودعم الإرهاب في المنطقة..
لقد عرض الاقتراح الإيراني السري مجموعة مثيرة من التنازلات السياسية، التي ستقدم عليها إيران إذا تمت الموافقة على الصفقة الكبرى، وهو يتناول عددا من المواضيع منها: برنامجها النووي, سياستها تجاه إسرائيل, ومحاربة القاعدة.
كما عرضت الوثيقة إنشاء ثلاث مجموعات عمل مشتركة أميركية-إيرانية بالتوازي، للتفاوض على خارطة طريق بخصوص ثلاثة مواضيع: أسلحة الدمار الشامل, الإرهاب، الأمن الإقليمي, والتعاون الاقتصادي".

وفقا لـ"بارسي", فإن الورقة مجرد ملخص لعرض تفاوضي إيراني أكثر تفصيلا، كان قد علم به في العام 2003م عبر وسيط سويسري، نقله إلى وزارة الخارجية الأميركية، بعد تلقيه من السفارة السويسرية أواخر ابريل وأوائل مايو من العام 2003م.
وتضمنت الوثيقة السرية الإيرانية لعام 2003م، والتي مرت بمراحل عديدة منذ 11 سبتمبر 2001م، ما يلي:
1- عرض إيران استخدام نفوذها في العراق لـ (تحقيق الأمن والاستقرار, إنشاء مؤسسات ديمقراطية, وحكومة غير دينية).
2- عرض إيران شفافية كاملة لتوفير الأمان، والتأكيد بأنها لا تطور أسلحة دمار شامل, والالتزام بما تطلبه الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل كامل ودون قيود.
3- عرض إيران إيقاف دعمها للمجموعات الفلسطينية المعارضة، والضغط عليها لإيقاف عملياتها العنيفة ضد المدنيين الإسرائيليين داخل حدود إسرائيل العام 1967م.
4- التزام إيران بتحويل حزب الله اللبناني إلى حزب سياسي منخرط بشكل كامل في الإطار اللبناني.
5- قبول إيران بإعلان المبادرة العربية التي طرحت في قمة بيروت عام 2002م، أو ما يسمى طرح الدولتين، وتنص على إقامة دولتين والقبول بعلاقات طبيعية وسلام مع إسرائيل، مقابل انسحاب إسرائيل إلى ما بعد حدود 1967م.
واشترطت إيران مقابل تقديمها هذه التنازلات عددا من الشروط التي وردت في هذه الوثيقة السرية المقدمة العام 2003م إلى الإدارة الأميركية، منها:
1- إنهاء السلوك العدائي للولايات المتحدة تجاه إيران، بما فيه إلغاء تصنيفها ضمن محور الشر، وتسميتها دولة داعمة للإرهاب.
2- رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية كليا عن إيران, والإفراج عن الأموال المجمدة لها في الولايات المتحدة، وإسقاط كافة الأحكام القضائية الصادرة بحقها، والمساعدة في تسهيل انخراطها في المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية.
3- اتخاذ موقف حازم ونهائي ضد من أسمتهم إرهابيي حركة مجاهدي خلق، المعاديين لإيران، خاصة الموجودين على الأراضي الأميركية, واحترام مصالح إيران القومية والشرعية في العراق وعلاقاتها الدينية في النجف وكربلاء.
4- السماح لإيران بالوصول إلى الطاقة النووية السلمية ومصادر التكنولوجيا البيولوجية والكيماوية.
5- والأهم من كل هذه المطالب, مطلب إيران، بالحصول على إقرار واعتراف أميركي بـ(شرعية مصالحها الأمنية في المنطقة كقوة إقليمية شريعة)، والتي تعني وفق نفس المصدر الذي اطلع على الرسالة السرية، منحها الوصاية أو اليد العليا في الخليج، والاشتراك في الترتيبات الأمنية المستقبلية للمنطقة, بالإضافة إلى الحصول على ضمانات بعدم التعرض لعمل عسكري.
المفاجأة الكبرى في هذا العرض، تمثلت في استعداد إيران اعترافها بإسرائيل كدولة شرعية!!
وقد سبب ذلك إحراجا كبيرا لجماعة المحافظين الجدد والصقور، الذين كانوا يناورون ويراهنون على مسألة تدمير إيران لإسرائيل و"محوها عن الخريطة".
بالنسبة لعدد من الأكاديميين الأميركيين المختصين في الشؤون الإيرانية، وحتى العديد من الأوساط الإسرائيلية البحثية، فإن ذلك لم يكن مفاجئا، إذ إنهم يعرفون أن التهديدات الإيرانية لإسرائيل ومسألة العداء، أمر مصطنع وموجه للعوام من الناس، بغرض كسب التعاطف والدعم, وليس أدل على ذلك من الرسائل التي تشير دائما إلى وجود علاقات سرية وتعاون بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل.
فعلى سبيل المثال, يقول افرايم كام، وهو أحد أشهر الخبراء في مجال الاستخبارات، والباحث في مركز جافي للدراسات الإستراتيجية في جامعة تل أبيب", في دراسة له أعدها بتكليف من وزارة الدفاع الإسرائيلية: إن إيران من الناحية العملية، لا تعتبر إسرائيل العدو الأول لها، ولا حتى الأكثر أهمية من بين أعدائها...وعلى الرغم من الخطاب السياسي الإيراني المناكف لإسرائيل إعلاميا, إلا أن الاعتبارات التي تحكم الإستراتيجية الإيرانية، ترتبط بمصالحها ووضعها في الخليج، وليس بعدائها لإسرائيل, وهي تبدي حساسية كبيرة لما يجري في دول الجوار".
ومثله، نقل معهد Omedia البحثي الإسرائيلي، في تقرير مهم له بعنوان "إيران بحاجة إلى إسرائيل"، للباحث زيو مائور، ما يلي: أن إيران لا تشكل أي خطر على إسرائيل ولا تريد تدميرها, بل هي في حاجة لإسرائيل وتعتبرها مكسبًا إستراتيجيا مهما حتى تظل قوة عظمى في المنطقة... وهي تستغل وتستخدم إسرائيل كذريعة لتحقيق أهدافها، ولدعم مكانتها الإقليمية ولنشر مبادئ الثورة الإيرانية تحت شعار معاداة إسرائيل.. وأما التصريحات الدعائية الإيرانية ضد الولايات المتحدة الأميركية، فهي من باب الاستهلاك الإعلامي فقط".
مثل هذه الخلاصات عن حقيقة العلاقة بين إيران وإسرائيل ليست يتيمة, وهناك شواهد كبيرة جدا تؤكد وتدعم هذا التوجه لدى عديد من الأطراف، بما في ذلك الإيرانية والإسرائيلية والأميركية.
تم إهمال العرض الإيراني التاريخي الكبير من قبل صقور الولايات المتحدة في البيت الأبيض. لكن إذا كانت إيران عرضت الاعتراف بإسرائيل، وقدمت كل هذه التنازلات, فما الذي حال دون موافقة الأميركيين على عقد مثل هذه الصفقة?
تشير بعض المصادر إلى أن سبب الإهمال أو الرفض الأميركي، هو أن العرض لم يكن رسميا، ولم يكن باستطاعة الجهات الأميركية التمييز بين ما قامت إيران بطرحه وبين ما أضافه السفير السويسري الوسيط، "تيم غولدمان", معتبرة أنه كان مجرد بالون اختبار لابتزاز الولايات المتحدة مقابل الحصول على مكتسبات كبيرة جدا.
هذا فيما يعتقد البعض الآخر، أن السبب هو المناورة الإيرانية، وأن الأميركيين كانوا سيناقشون الطرح فيما لو تم بطريقة مباشرة ورسمية، وليس عبر وسطاء وتسريبات, فيما ترى مصادر أخرى أن السبب الحقيقي لإهمال العرض، يكمن في عنصرين أساسيين:
الأول: هو أن إيران منحت نفسها قدرا أكبر من الوزن والقوة والمكانة الإقليمية والدولية، عندما ساوت نفسها بالولايات المتحدة، وهو الأمر الذي ما كان يتم قبوله بالنسبة للاتحاد السوفيتي، فكيف بإيران!! وهو الأمر الذي لم يعجب صقور الإدارة، الذين كانوا يرون أن الولايات المتحدة قادمة لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط، بدءا من أفغانستان وليس انتهاء بالعراق، وقد يكون الدور على النظام الإيراني تاليا, خاصة وأن أميركا كانت في موقع قوي عسكريا وسياسيا، إذ لم تكن المقاومة العراقية قد بدأت أعمالها بعد.
الثاني: وهو العامل الأهم, أن المشكلة تكمن في المطلب الإيراني، بإعطائها الوصاية على الخليج، والاعتراف بها قوة شرعية. إذ إن الاستجابة لمثل هذا الطلب، يعني تحويل إيران إلى قوة عالمية تسيطر على نفط العالم عبر الخليج، وتتحكم بالممرات وعوامل القوة، وتبتز الآخرين متى تشاء, وهذا أمر مرفوض بتاتا في السياسة الأميركية، خاصة وأن الولايات المتحدة كانت قد حسمت أمرها في إخضاعه لإشرافها مباشرة، سيما بعد تجربة الشاه وصدام، التي كادت أن تحول هذين النظامين إلى قوة عالمية تتحكم بالدول العظمى.
أما بالنسبة إلى الاقتراح الثاني، الأقل أهمية، الذي ورد في اجتماع جواد ظريف مع خليل زاد في جنيف ـ سويسرا, فقد تمت مناقشته في الإدارة الأميركية، وعلى الرغم من أنه لم يقر بشكله المطروح, إلا أن الولايات المتحدة قامت باتخاذ خطوات محددة في ذلك الوقت تجاه جماعة مجاهدي خلق في العراق، مقابل الحصول على معلومات محددة من قبل الإيرانيين عما هو متوفر لديها من تحركات للقاعدة. وقد أجاز البيت الأبيض عبر الرئيس بوش لوزارة الخارجية، متابعة الاتصالات مع الإيرانيين في جنيف.
في هذه الأثناء, كان جناح تشيني, رامسفيلد, وفايث، غير مرتاح للنوايا الإيرانية, وحصلت حينها تفجيرت في الرياض، أدت إلى مقتل (8) أميركيين وعدد كبير من السعوديين, وقد اتهمت المخابرات الأميركية حينها إيران بإيوائها المخططين لهذه التفجيرات, في حين أن إيران كانت قد أعلنت أنه لو كان هناك فعلا عدد من التابعين للقاعدة على أراضيها, فإن هذا لا يعني أنها تؤويهم, إذ لا يمكن مراقبة الحدود الشاسعة أو السيطرة عليها كليا.
وبغض النظر، سواء أكان هذا صحيحا أم لا, فقد استغل الجناح الأميركي المتشدد هذه الحوادث، وأقنع بوش بأن إيران تساعد القاعدة على استهداف الأميركيين, فقام بوش بإلغاء اجتماع كان من المقرر للأميركيين أن يجتمعوا خلاله بوفد إيراني في 21 مايو 2003م، وبذلك جمدت قناة الاتصال الدبلوماسية الوحيدة مع الإيرانيين.
* جناح الحمائم الأميركي يصطدم بصقور المحافظين الجدد.. منعا لتغيير النظام الإيراني:
حاول فريق وزير الخارجية الأميركية كولن باول، التحرك لإبقاء قناة الاتصال مع الإيرانيين مفتوحة, فقرر متابعة موضوع وملف مجاهدي خلق، والالتزام بما تم طرحه في الاقتراح الثاني خلال اجتماع كل من مبعوث إيران لدى الأمم المتحدة جواد ظريف مع خليل زاد في جنيف ـ سويسرا في 2 مايو 23م، وقام كولن باول بتوجيه رسالة إلى رامسفيلد، الذي سمح لمجموعات مجاهدي خلق بالتنقل من وإلى المخيم بحرية، يذكره فيها بأن مجموعات مجاهدي خلق الموجودون في العراق، هم اسري لدى القوات الأميركية وليس حلفاء, وأنه لا يجوز السماح لهم بالتنقل بحرية من وإلى المخيم الذي يقيمون فيه.
ونتيجة للتجاذب الأميركي الداخلي, وافقت الإدارة الأميركية على إعادة فتح أبواب الحوار مع إيران، شرط أن تقوم ابتداء بتسليم الولايات المتحدة قيادات القاعدة الموجدين لديها، أو إعطاء معلومات مهمة عنهم.
فنقل ريتشارد أرميتاج، الذي أعرب المسؤولون الإيرانيون عبر قنوات خلفية عديدة، عن تمنياتهم بأن يرأس أي وفد للحوار أو الاتصال مع طهران، لكونه مهتما جدا بالانفتاح على إيران، وعاش فيها عدة السنوات، ولديه خلفية جيدة عنها، هذه الرسالة في شهادة له أمام الكونغرس الأميركي في أكتوبر 2003م، قائلا: الولايات المتحدة ستكون مستعدة لإجراء حوار واسع النطاق مع إيران، لكن بعد أن تقوم الأخيرة بتسليم قادة القاعدة الموجودين لديها، أو إشراكنا في معلومات مهمة عن جميع قادتها المهمين".
أصر صقور الإدارة الأميركية على تطبيق ما اصطلح على تسميه "قواعد هادلي" في الانفتاح على إيران، إذا كانت راغبة في فتح قناة اتصال, هذه القواعد كانت تفرض على إيران تنفيذ ما يطلب منها أولا، ومن ثم الحديث عن المواضيع التي سيتم النقاش حولها.
وبحلول الفصل الأخير من سنة 2003م، رأت إيران في برنامجها النووي فرصة لفتح نقاش وحوار مع الدول الأوروبية، وبالتالي توسيع أي إطار إقليمي ودولي، لمواجهة أي جهد أميركي يسعى لعزلها، بعدما شعرت الأخيرة أن المحافظين الجدد جادين في مسألة تغيير النظام الإيراني، أو على الأقل زيادة الضغط عليه في المرحلة المقبلة.
في ذلك الوقت، تسربت العديد من السيناريوهات الأميركية لإسقاط النظام في إيران عبر هجوم عسكري كبير, فيما طرحت بعض الأوساط اعتماد أساليب أخرى غير عسكرية لإخضاع النظام الإيراني.
فقد اقترحت مؤسسة "اميركان إنتربرايز"، أن يتم العمل على تطوير سياسة الحصار الاقتصادي ـ العسكري على إيران، ليصبح حصارا إيديولوجياً أيضا, من خلال مواصلة مشروع إدارة بوش في نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط, على أن يتم العمل على تحقيق هدفين:
ـ منع إيران من الحصول على دعم قوى كبرى. وبرغم أن قطع علاقات إيران بالصين سيكون صعباً, إلا أن الأمر ليس كذلك مع الهند، التي يمكن إغراؤها بقطع علاقتها مع طهران، مقابل إقامة تحالف إستراتيجي بينها وبين أميركا. (وهذا بالتحديد مع فعله بوش خلال زيارته الأخيرة للهند).
ـ أما الهدف الثاني، فهو أن تحتفظ الولايات المتحدة بالمبادرة في مشروعها الجديد للإصلاح والتغيير في الشرق الأوسط الكبير.
فالعزل الحقيقي للنظام الإيراني لن يتحقق إلا حين يغرق هذا الأخير في بحر أكبر من الحكومات الليبرالية القابلة للمساءلة في المنطقة. وإذا ما استقرت الديمقراطية في أفغانستان والعراق, برغم استمرار أعمال العنف فيهما, فستتعرض إيران إلى مخاطر مضاعفة في الداخل.
امتعضت إيران من التصرف الأميركي الذي لم يكافئها على دورها الإيجابي، وعمل على محاصرتها, فصرح محمد علي أبطحي، نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية آنذاك، في ختام أعمال مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية بإمارة أبوظبي في 15/1/2004م، قائلا: قدمنا الكثير من العون للأميركيين في حربيهم ضد أفغانستان والعراق....ولولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة!!... لكننا بعد أفغانستان حصلنا على مكافأة وأصبحنا ضمن محور الشر, وبعد العراق نتعرض لهجمة إعلامية أميركية شرسة".
حاول جناح الحمائم في الإدارة الأميركية التوصل إلى تسوية, فاقترحت بعض الأوساط الأميركية في تلك الفترة من العام 2004م، أن يتم انتهاج سياسة الانخراط الانتقائي في التعامل مع إيران, وذلك كحل وسط بين عقد صفقة كبيرة مع النظام الإيراني "تشرع" وجوده، وتعترف به قوة إقليمية لها كلمة ووزن فيما يحصل في الخليج, وبين خيار الإطاحة بالنظام الإيراني وإسقاطه بعمل عسكري, وبالتالي تفادي ما يمكن ان ينتج عن أحد هذين الخيارين من تداعيات إقليمية ودولية.
ويعد كل من روبرت غيتس، مدير وكالة المخابرات المركزية سابقا في عهد إدارة جورج بوش الأب ومدير جامعة تكساس, ورد اسمه في فضيحة إيران-كونترا (أصبح وزيرا للدفاع في العام 2006م), وزبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد كارتر، والذي يعمل مستشارا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، وأستاذا للسياسة الخارجية في جامعة هوبكنز, من أبرز الداعين إلى اعتماد سياسة الانخراط الانتقائي مع إيران.
وقد شارك الاثنان في إعداد تقرير أصدره مجلس العلاقات الخارجية الأميركي في يوليو 24م على شكل توصية للإدارة الأميركية، بعنوان: "إيران.. حان الوقت لمقاربة جديدة"، اقترحا فيه اعتماد مواضيع محددة في الحوار المباشر بين أميركا وإيران، مع استبعاد خياري الصفقة الكبرى من جهة وتغيير النظام من جهة أخرى. وقد جاءت أبرز توصيات التقرير باختصار على الشكل التالي:

1- تقديم عرض لإيران بقبول الحوار المباشر معها حول مواضيع تحقيق الاستقرار الإقليمي، وذلك عبر تصريح أو بيان يتبعه خطوات عملية في هذا الإطار, لأن من شأن هذا التحرك أن يؤسس لتعاون إيراني بناء في دعم حكومتي العراق وأفغانستان، وبالتالي يعزز الثقة في الحديث عن الهواجس المتأتية من تحركات إيران الإقليمية، ومناقشتها بشكل إيجابي.
2- دفع إيران إلى توضيح وضع قيادات القاعدة، الذين ألقت القبض عليهم عندها, وفتح حوار حول الموضوع الأمني، بشرط أن لا يكون لإيران أي دور مشبوه في قضايا العنف والإرهاب, ومقابل ذلك، تعمل الولايات المتحدة على تفكيك قواعد مجاهدي خلق في العراق بشكل نهائي، تمهيدا لتقديم قياداتهم للعدالة.
3- تطوير إستراتيجية أكثر فعالية بخصوص البرنامج النووي الإيراني، بالتعاون مع الحلفاء في أوروبا وروسيا, والتوصل إلى اتفاق مقبول، مقابل أن تقوم إيران، بالتخلي كليا عن تخصيب اليورانيوم ودورة الوقود الكاملة.
4- العمل على إعادة إحياء عملية السلام، كي لا تقوم أي أطراف، ومن ضمنها إيران، باستغلال الوضع.
5- تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع الشعب الإيراني، والسماح للمنظمات غير الحكومية الأميركية بالعمل في إيران, والبدء في محادثات انضمام إيران إلى منظمة التجارة العالمية.
حاولت إيران استدراك هذا الحراك الداخلي الأميركي، الذي يدعم الانفتاح معها, فلجأت إلى "الدبلوماسية الثقافية", وقامت بتوجيه دعوة رسمية إلى رئيس المكتبة القومية الأميركية والأرشيف، الدكتور جميس بيلينغتون، والذي يعد أيضا من المسؤولين الكبار في السلطة القضائية الأميركية, فقام بزيارة إلى إيران في نوفمبر 24م، بعلم وموافقة كل من وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الأميركي، ليكون بذلك ثاني أكبر مسؤول أميركي يزور إيران منذ اندلاع الثورة الإيرانية، بعد زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، روبرت ماكفرلين السرية إلى إيران، والتي تم الكشف عنها فيما بعد في إطار فضيحة إيران-جيت والمثلث الإسرائيلي-الإيراني-الأميركي.
حاولت إيران توجيه رسالة واضحة من خلال هذا النوع من الدبلوماسية، على أمل أن تكون على منوال دبلوماسية البينغ-بونغ الأميركية-الصينية. لكن الواقع في الداخل الأميركي، كان قد تجاوز هذا الطرح تماما، وذلك لأن فوز الرئيس جورج بوش بولاية ثانية، أدى إلى تقوية المحافظين الجدد، خاصة بعد أن تم العمل على تصفية الحمائم الموجودين داخل الإدارة الأميركية، سيما في وزارة الخارجية، وخاصة من أولئك المهتمين بالانخراط مع إيران في محادثات مباشرة مفتوحة.
وقد رأت الإدارة الأميركية الجديدة أن مثل هذا الطرح لن يفيد ولن يوقف إيران عن تحقيق مشروعها النووي العسكري, إذ إن اعتماد مثل هذه السياسية، سيؤدي إلى نفس العواقب، التي أدت إليها سياسة واشنطن المتساهلة مع كوريا الشمالية إبان فترة كلنتون, حيث لم تنفع المحادثات، ولا حتى سياسة الجزرة، في إبعاد كوريا الشمالية عن تحقيق برنامج نووي عسكري خاص بها.
وعندما أصبح النقاش الأميركي والدولي يدور حول برنامج إيران النووي والسلاح النووي, انتقل الملف داخليا من يد الحمائم في الخارجية الأميركية إلى يد الصقور فيها، وتحديدا إلى يد جون بولتون، نائب وزير الخارجية لشؤون الرقابة على التسلح والأمن الدولي، والعضو البارز في تيار المحافظين الجدد.
لقد كانت سياسة جون بولتون، تقتضي زيادة الضغوط على إيران عبر التصويت على نقل ملفها من وكالة الطاقة الذرية إلى مجلس الأمن، من أجل دفعها إلى إيقاف دورة الوقود النووي بشكل كلي.
في هذه المرحلة بالذات، قامت إيران بالتواصل مع الدول الأوروبية من أجل منع الولايات المتحدة من تحقيق هدفها في نقل الملف إلى مجلس الأمن، أو إيقاف إيران عن إكمال عملها في تحقيق دورة الوقود النووية الكاملة.
لكن جميع المؤشرات في تلك الفترة كانت تشير إلى أن إيران قد غيرت فعلا توجهها، وباتت لا تفضل مناقشة أي طرح أو اقتراح أو تسوية مع الولايات المتحدة, والسبب في ذلك ـ وفقا لمصادر رفيعة المستوى ـ أن إيران رأت في ذلك الوقت، أن الولايات المتحدة قوية جدا، وتمتلك جميع أوراق اللعبة في الشرق الأوسط، وأن هذا سيضعف الموقف الإيراني في أي مفاوضات مباشرة، ولن يكون لدى إيران ما يمكن أن تستخدمه فيها في تلك المرحلة.
وعليه, فقد قرر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي ـ حسب المصدر نفسه ـ إرجاء هذا الموضوع إلى حين حصول تغييرات لصالح إيران، تمكنها من دخول أي مفاوضات مباشرة من موقع القوة, ومن أجل ذلك قام بالإيعاز إلى أجهزة الدولة الإيرانية من الباسيج و"الباسدران"، حرس الثورة وعناصر حزب الله وأجهزة المخابرات والجيش، بالتصويت للمرشح الرئاسي أحمدي نجاد، لأن المرحلة تتطلب تصعيدا ورفسنجاني ليس رجلها.
فأصبح أحمدي نجاد الرئيس في العام 2005م، وشهدت هذه السنة تصعيدا كبيرا في علاقة إيران مع جيرانها ومع المنظومة الدولية، نتيجة لتشدد الرئيس الجديد، وإتباعه نهج تصدير الثورة الإيرانية وأفكارها.
وقد نقل وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي، في مذكراته، التي أصدرها أخيرا، كلاما مهما عن الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد، يعبر عن هذا التوجه الثوري ومداه، قوله في سبتمبر 2005م: "علينا أن نتمنى أن تعم الفوضى بأي ثمن, لنرى عظمة الله".
(يتبع)

ستكون إيران في غاية الغباء إذا راهنت على أن وضع أمريكا الحالي الغارق في العراق وأفغانستان، ووضع الإدارة الأمريكية الضعيف شعبيا في الداخل، وارتفاع أسعار النفط وغيرها من العوامل، قد تحول دون تمكين أمريكا من شن هجوم على إيران. لا يمكن المراهنة على هذا التصور، وذلك لأن القيادة الأمريكية الحالية والإدارة المساندة لها، لا تتسم بالعقلانية, بمعنى أنها إذا أرادت القيام بالعمل، فإنها لن تقيم وزنا لهذه القيود

العام 2006م، إيران تحيي آمالها بعقد الصفقة من جديد ..وتوصيات أمريكية بضرورة الاتصال المباشر معها :
مع مرور الوقت, أخذت مكتسبات الولايات المتحدة وقوتها تتراجع شيئا فشيئا, وبدأت معالم الغرق في أفغانستان والعراق تظهر شيئا فشيئا, بالإضافة إلى مواجهتها العديد من الأزمات والقضايا الدولية، من النووي الكوري الشمالي، إلى قضية السلام في الشرق الأوسط، إلى التراجع في الحرب على الإرهاب، إلى الأزمات الداخلية التي أخذت تعصف بالولايات المتّحدة الأمريكية.
مضت عدّة سنوات على العرض الإيراني السرّي، إلى أن وصلنا إلى العام 2006م, حيث شرع الإيرانيون بالإعداد لحملة دبلوماسية، لإعطاء إشارة للأمريكيين، بأنّهم جاهزون لأية مباحثات مباشرة من دون شروط, ولم تستثن هذه الحملة حتى من يعتبرون أنفسهم أعداء "للشيطان الأكبر"، بمن فيهم الرئيس الإيراني المحافظ أحمدي نجاد.
وقد كانت عملية "تخصيب اليورانيوم" خلال كل تلك الفترة الماضية، إحدى أهم الأوراق في الضغط على الولايات المتحدة، لإجبارها على فتح مثل هذا الحوار. فأعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية "حميد رضا آصفي" في 3 آذار/مارس من العام 2006م، أنّ بلاه مستعدة للتفاوض إذا تخلت أمريكا عن التهديد والشروط المسبقة لمثل هذا الاجتماع. ثم تبعه الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، الذي أبدى في مؤتمر صحفي في 24 نيسان/آبريل، رغبته بالحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية.
شكلت المطالب الإيرانية هذه، بفتح اتصال مباشر مع أمريكا، إحراجا للإدارة الأمريكية، خاصة وأن جهات داخلية لامت الرئيس بوش وأنصاره على تفويت فرصة العام 2003م، للتفاوض مع إيران من موقع القوة وليس من موقع الضعف، ولكن هؤلاء كانوا يبررون موقفهم بأن الولايات المتحدة قوية في جميع الظروف، ومن ثم فإن إيران ليست قطبا دوليا، كالاتحاد السوفيتي مثلا، كي تفرض نفسها ندا للولايات المتحدة، وهناك بعض الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عليها مباشرة، وهي كيف يمكن لإيران أن تثبت أنها لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية, كما أن النخبة في الأمن القومي الأمريكية، تعتقد أن ما طالبت به إيران هو أكبر بكثير مما يتوافق مع موقعها و قدراتها.
إيران من جهتها رأت في العام 2006م، مؤشرات لحدوث تحول كبير لصالحها في عدد كبير من العناصر المؤثرة، وهو الأمر الذي يجعل مفاتيح اللعبة في يدها. ومن خلال متابعتنا للتصريحات والتحركات الرسمية الإيرانية, نستطيع أن نلحظ أن هناك عددا من المؤشرات التي توحي بأنّ إيران تحاول إعادة إحياء "الصفقة الكبرى"، عبر استغلال عدد من العناصر، ومنها:
1- غرق أمريكا كليا في العراق وأفغانستان.
2- سقوط الجمهوريين في الانتخابات النصفية ووصول الديمقراطيين.
3- استبدال وزير الدفاع الأمريكي رامسفلد بـ"جيتس"، وهو أحد المنظرين والمطالبين بفتح قنوات دبلوماسية مع إيران من أجل عقد صفقة معها, وقد ضمن تقريره المرفوع إلى مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي هذا الأمر.
4- تقرير لجنة بيكر حول العراق، والذي يوصي بفتح قنوات اتصال مع إيران حول العراق.
5- امتلاك إيران أوراق ضغط وتخريب كبيرة في لبنان عبر حزب الله.
6- استغلال إيران لحماس وعدد من الفرقاء الفلسطينيين.
وبناء عليه, كانت إيران ترى أن الولايات المتحدة أصبحت في متناول يدها، وأن الوقت الأنسب لإعادة طرح "الصفقة الكبرى" على طاولة البحث هو الآن.
يقول "جارثر بورتر"، المؤرخ والمهتم بهذا الشأن: "يطرح البعض أن العرض الإيراني هو انعكاس للثقة الزائدة التي تتمتع بها إيران، نتيجة للكارثة الأمريكية في العراق, وبالتالي عدم الخوف من أي هجوم أمريكي محتمل, بينما يفسّر البعض الآخر سعي إيران إلى عرض تسوية شاملة مع الولايات المتحدة، على أنه خوف من وقوع هجوم أمريكي مفاجئ عليها.
منذ العام 23م، أقنعت التغييرات الدراماتيكية السياسية التي حصلت في المنطقة، ومن بينها (وصول نظام شيعي موالي لإيران في العراق ونظام صديق لها أيضا في أفغانستان, ازدياد نفوذ و قوّة حزب الله في لبنان، بالإضافة إلى حماس والجهاد في فلسطين), أقنعت إيران بأن الوقت مناسب للمساومة مع الولايات المتحدة, وقد أكد علي ولايتي، المستشار الشخصي للخامنئي في العلاقات والشؤون الخارجية في محاضرة له ألقاها في شهر نوفمبر/تشرين أول، قائلا: "نحن نملك القوّة الكافية الآن للمساومة, لماذا لا نساوم؟".
ويضيف "بورتر": "الحافز الأساسي الذي يدفع القيادة الإيرانية الآن لمساومة الولايات المتحدة الأمريكية، ليس الخوف من الولايات المتحدة، بقدر حاجتها إليها، لتحقيق هدفين رئيسين هما:
أولا: دمج إيران كليا في النظام الاقتصادي العالمي.
ثانيا: الاعتراف بمكانتها كقوة إقليمية شرعية في الشرق الأوسط".
وأيا يكن الأمر, فقد كان أمام بوش خياران, إما أن يقبل بتوصيات لجنة بيكر-هاملتون، ويأخذ حقائق هزيمته في العراق وأفغانستان بعين الاعتبار، ويفتح حوارا مباشرا مع إيران، ويوافق على كل ما تطلبه، وهو الأمر الذي كان معظم المراقبين يظن أنه سيحصل، بمن فيهم إيران, وإما أن يعمل بعكس ذلك، وهو الأمر الذي اتّبعه بوش.
إيران تفجّر المنطقة لجر أمريكا للتفاوض، والولايات المتحدة تحاول تعطيل أوراق إيران الإقليمية قبل الانقضاض عليها.
لقد قرّر الرئيس بوش زيادة عدد قواته في العراق لتوجيه رسالة واضحة إلى إيران وإلى الجميع، بأن أمريكا ليست ضعيفة، وستنتهي كليّا من مشكلة العراق.
لا شك أن غرق أمريكا في العراق يسرَ إيران, ولكنّها تفاجأت من عرض المقاومين وبعض الجهات المرتبطة بهم، التفاوض مع الأمريكيين في شهر نوفمبر/تشرين ثاني 26م، مقابل انسحابهم من العراق، إذ إن هذا التطور (في المنظور الإيراني)، إن تمّ فعلا، يعني خسارة حلفائها في العراق لموقعهم السياسي، وخروج إيران من المسألة بخفي حنين, فهي كانت تنوي الاستفادة من مقاومة العراقيين بشكل غير مباشر، ليتم تجيير نتائجها لصالحها في أي مفاوضات مع الأمريكيين.
هذا التطور سرّع من التحرك الإيراني في المنطقة, لأن تخلص الولايات المتحدة من مشكلتها في العراق، سواء عبر التفاوض مع المقاومين لتمهيد الانسحاب، أو من خلال إشراك قدر أكبر من السنة العرب في العملية السياسية على حساب الشيعة, يعني أن إيران خسرت ورقة كان من الممكن أن تفاوض الأمريكيين عليها مقابل مكتسبات.
نفس الأمر ينطبق على الوضع اللبناني, حيث تراجع موقع حزب الله عمليا, وتدمّرت بيئته وبنيته التحتية، وهو كما ذكر "حسن نصرالله"، لن يخوض حربا أخرى, وهذا يعني أن إيران لم يعد بإمكانها الاستفادة من خدماته على صعيد الحروب، ولم يعد ينفع استخدامه كورقة سورية أو إيرانية في أي تفاوض مع الجهات الدولية, إذ أصبح ملفه بعد إغلاق الحدود، قضية داخلية, والباقي هو سلاحه فقط، وهذا ما يمكنها التفاوض عليه. لذلك يقوم الحزب الآن بحركة انقلابية في الداخل اللبناني، ليستعيد المبادرة، ويشكل رافعة للدور الإيراني في المنطقة.
عندما تمّت إثارة موضوع ضرورة فتح اتصالات مع سوريا وإيران للمساعدة على استقرار العراق ولبنان بعد فوز الديمقراطيين في المجلس, قام الرئيس الإيراني احمدي نجاد في 18-11-26م، بتوجيه رسالة عبر وزير الخارجية الإيرانية "سيد جليلي"، إلى رئيس الوزراء الإيطالي "رومانو برودي"، يعرض فيها "استعداد إيران للمشاركة في حل مشاكل الشرق الأوسط، إذا اعترف لها بوضع قوة إقليمية". وإذا دققنا في هذه الجملة، سنجد أنها مطابقة تقريبا للبند رقم 5، الوارد في العرض الإيراني السري للعام 23م!!
أهملت الولايات المتحدة رسالة نجاد، ورد بوش بطلب المساعدة من العرب في حل المعضلتين العراقية واللبنانية، بدلا من أن يفتح قناة اتصال مع سوريا وإيران.
أصبح على إيران إيجاد بدائل تستطيع من خلالها جر الأمريكيين للتفاوض معها، وتكون قادرة على تلبية المطالب التي ستطلب منها حال الاتفاق على ذلك. لذلك وجدت إيران أن الجبهتين العراقية واللبنانية من أكثر الجبهات، التي تحظى بنفوذ كبير فيها، وتستطيع استغلالها لدفع الأمريكيين إلى مفاوضات، ولذلك قامت بخطوتين:
ـ الأولى: دفع حزب الله إلى تصرف غير مفهوم، وللمرة الأولى في تاريخه، إلى صراع سياسي داخلي، وانتقل الحديث من الحرب والأسرى والدمار إلى الحديث عن ضرورة إسقاط الحكومة، التي تسعى لإخلاء لبنان من النفوذ السياسي الإيراني والسوري. وقد قام السيد حسن نصرالله بتاريخ 23-11-2006م، بإلقاء خطاب من أجل تحديد ساعة الصفر للإطاحة بالحكومة اللبنانية.
ـ الثانية: دعم الميليشيات الشيعية في العراق وفرق الموت للاصطدام بالسنّة، وإثارة فتن كبيرة، بحيث تظهر الإدارة الأمريكية عاجزة على ضبط الوضع، وبالتالي عندما يريد الأمريكيون معالجة الأمر، فإنه لا بد وأن يرجعوا إلى إيران لا إلى العرب، لأن العرب لا يملكون نفوذا على المقاومة العراقية أو على الميليشيات الشيعية وجيش المهدي.
ولذلك قامت إيران بخطوة غير مسبوقة بهذا الحجم المفضوح، بتزويد جيش المهدي وفيلق بدر بأموال طائلة وأسلحة، تمّ ضبط بعضها، وتبين أنها صناعة إيرانية إنتاج العام 26م. وهذا يعني أن الأسلحة لم تصل إلى الميليشيات الشيعية عبر وسيط أو السوق السوداء، لأنها لو كانت كذلك لكان تاريخ الإنتاج أقل بسنتين على الأقل, وهذا يعني تورط الحكومة الإيرانية مباشرة أو الحرس الثوري. وقد حصلت تفجيرات مدينة الصدر بتاريخ 23-11-2006م أيضا، وهو نفس تاريخ إعلان السيد حسن نصرالله.
تبع النشر الإيراني للفوضى في المنطقة وتفجيرها في وجه الأمريكيين، عرضا آخر بالمساعدة، ففي 27-11-2006م، صرح رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية أمام حشد من "الحرس الثوري"، قائلا: "الأمة الإيرانية مستعدة لانتشالكم (أمريكا وبريطانيا) من ذلك المستنقع (العراق)". يتابع أحمدي نجاد: "بشرط واحد, عليكم أن تتعهدوا بتصحيح نهجكم، عودوا وخذوا قواتكم إلى ما وراء الحدود، وستكون أمم المنطقة بقيادة الأمة الإيرانية، مستعدة لإظهار طريق الخلاص لكم".
* الفصل الأخير: إيران تخسر أوراقها وتخصيب اليورانيوم الورقة الوحيدة... الولايات المتّحدة تحشد عسكريا لضرب إيران أم للتفاوض معها؟
لم تنجح الألغام الإقليمية التي وضعتها إيران في فلسطين والعراق ولبنان، بعد أن تمّ تحليل عناصرها وتفكيكها, فهي قد فشلت عبر تفجيرها للمنطقة في جر الولايات المتحدة للتفاوض, وانعكس ذلك سلبا عليها، خاصة بعدما بذلت المملكة العربية السعودية جهدا دبلوماسيا كبيرا في تنفيس الألغام السياسية والاجتماعية، التي زرعتها إيران في العراق, لبنان, وفلسطين.
لقد أدت التهدئة إلى سحب هذه الأوراق من يد إيران, واستغلت الولايات المتحدة ذلك في الترويج غير المباشر في التحضير لحملة عسكرية ضد إيران، لتزجيه رسالة قوية بأن تحركاتها جدية, وقد عززت ذلك بعدد من التحركات، منها:
1- إرسال حاملة الطائرات الأمريكية (USSC)، حمل على متنها جناح الطيران التاسع، المكون من خمسة آلاف ضابط وبحار وعنصر من مشاة البحرية, والتي ستنضم مع أربع سفن حربية وثلاث مدمرات، إلى القوات العاملة في منطقة الخليج قريبًا.
2- منح قواته في العراق رخصة لاعتقال أو قتل عملاء إيران النشطين في العراق، وقد أعلنت حركة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة لائحة بأسماء أكثر من 31 ألفا منهم.
3- مداهمة القوات الأمريكية لمبنى القنصلية الإيرانية في مدينة أربيل، شمال العاصمة بغداد، حيث اعتقلت عدداً من العاملين بالمبنى، وصادرت مجموعة من الوثائق السرية الخطيرة.
4- اعتقال عدد من الدبلوماسيين الإيرانيين في العراق، من بينهم اثنان، قيل إنهما من ضباط في الحرس الثوري من أجل التحقيق معهم.
كل هذه التحركات التي تمت خلال الشهر الأول من سنة عام 2007م، كان الهدف منها إيصال رسالة واضحة إلى إيران، بأن الولايات المتحدة قررت شن حملة تصعيد كبير ضدها، وأن الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ضعيفة، هو خطأ إستراتيجي، سيوقع إيران في خطأ حسابات قاتل.
وفجأة، عاد الحديث عن موضوع العرض الإيراني السري العام 2003م, حيث عرضت القناة الثانية في هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي في 17-1-2007م، ما قاله "لورنس ويلكرسون"، مساعد وزير الخارجية السابق كولن باول لبرنامج نيوزنايت (أخبار الليلة)، من أن إيران كانت قد عرضت العام 23م على الولايات المتحدة حزمة من التنازلات, مضيفا: "اعتقدنا أنها كانت فرصة سانحة [لقبول العرض] ... لكن وبمجرد أن رُفع العرض الإيراني إلى البيت الأبيض، وما إن بلغ مكتب نائب الرئيس، عادت إلى الظهور تعويذة: نحن لا نتعامل مع الشيطان"، وتمّ رفضه.
وترافق ذلك مع ما ذكرته وزيرة الخارجية الأمريكية "رايس" في جلسة استماع أمام الكونجرس الأمريكي، من أنها لم تُبلغ بهذا العرض في تلك الفترة عندما كانت مستشارة الأمن القومي للرئيس جورج بوش. وقالت: "لم أكن في وزارة الخارجية في تلك الفترة"، مضيفة: "انطلاقا مما فهمته، وصل فاكس إى الخارجية", لكن "إذا ما قرأتم تعليقات ريتشارد ارميتاج حول طبيعة هذا الفاكس، تدركون ربما لماذا لا يشكل هذا الفاكس وثيقة جذبت انتباها كبيرا لدى الإدارة...إن مصادره (الفاكس) كانت تدعو إلى الشك"، مبدية موافقة ضمنية على قرار ارميتاج، بالامتناع عن إبلاغها شخصيا بهذا العرض. ورفضت رايس التوضيح العلني لمضمون هذا الفاكس، لكنها وعدت بإجابة الكونجرس خطيا.
من المؤكد أن هذه الضجة التي أُثيرت في هذه الفترة بالذات حول موضع "العرض الإيراني"، لم تكن عفوية ولا عشوائية, فالهدف على ما يبدو إعادة فتح الموضوع، ولكن عبر وسائل الإعلام وليس بالطرق الدبلوماسية, وكأن الإدارة الأمريكية تقول للإيرانيين: "نحن مستعدون الآن لمناقشة هذا العرض ...اتصلوا بنا", بالطبع الفترة هذه مناسبة لفتح نقاش، خاصة في ظل السخط الإقليمي العربي والدولي تجاه إيران ومشروعها التخريبي في المنطقة، والذي لا يقل ضررا عن المشروع الأمريكي نفسه, لأن إيران ستكون تحت ضغوطات كبيرة خلال أي مفاوضات تجري.
لجأت إيران إلى الاتصال بالمملكة العربية السعودية، بحثا عن الجسر الذي يوصلها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت قد توسطت سابقا بعبدالعزيز الحكيم، فحملته رسالة إلى الأمريكيين بهذا الخصوص.
وما لبث الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أن أعلن في الذكرى الثامنة والعشرين لانطلاق الثورة الإسلامية في إيران في 12/2/2007م، عن استعداده للتفاوض والحوار، ولكن دون شرط وقف تخصيب اليورانيوم, وهو الشرط الذي تطلب واشنطن من طهران تنفيذه قبل أي مباحثات. فقد قال نجادي: "إذا كنتم مستعدين للتفاوض، لماذا تصرون على وقف (تخصيب اليورانيوم)؟ إذا علقنا أنشطتنا، فعن ماذا ستتحدثون؟.... نحن مستعدون للتفاوض تحت شروط نزيهة وعادلة.. إننا نرفض الشروط التعجيزية، ولن نقبل تعليق التخصيب كشرط مسبق للحوار".
هذا وقد أعادت "رايس" طرح عرض المفاوضات المباشرة، بشرط إيقاف التخصيب، وذلك في برنامج أمريكي استضافها على الهواء مباشرة, فأشاد وزير الخارجية الإيرانية بالجزء الأول من كلامها، وردّ "لاريجاني": "إن إيران مستعدة أيضا، ولكن يجب على الولايات المتحدة أن تعرض ذلك من خلال طلب رسمي، وليس عبر وسائل الإعلام", ولم يعلق على مسألة التخصيب.
* هل يكون رافسنجاني رجل المرحلة؟...الخطأ في الحسابات الإيرانية قد يؤدي إلى حرب مدمرة:
في هذه المرحلة بالذات، وبدلا من أن يتم فتح خط اتصال بين الطرفين, كان هناك إصرار إيراني بعدم إيقاف التخصيب، لأنه كما يبدو الورقة الأخيرة التي يمتلكها النظام الإيراني في التفاوض على مطالب مهمة من الغرب, ومن أجل ذلك، فقد بدا التعنت الإيراني كبيرا، وهو الأمر الذي دفع الإدارة الأمريكية، مممثلة في ديك تشيني إلى التصريح بأن كل الاحتمالات مفتوحة, دون أن تهمل طبعا ترك الباب الخلفي مفتوحا للمفاوضات، التي يسعى الطرفان إلى عقدها، كلّ بشروطه, وأرسلت الإدارة الأمريكية عددا من الإشارات في هذا المجال، خاصة بعد أن أصدرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقريرها في 22 شباط/فبراير 2007م، والذي ذكرت فيه
أن إيران لم تلتزم بالمهلة المعطاة لها، بناء على قرار مجلس الأمن الصادر في كانون أول/ديسمبر 2006م، للاستجابة لمهلة الستين يوما، التي منحها إياها لوقف تخصيب اليورانيوم.
وعندما سئلت "رايس" بعد هذا التقرير، عن إمكانية القيام بتدخل عسكري ضد إيران، أجابت: "كنا في غاية الوضوح، بأننا ملتزمون بالطرق الدبلوماسية، والتي يمكن أن تتكلل بالنجاح، إن بقيت الأسرة الدولية موحدة", فيما أشار تشيني إلى إن "كل الخيارات مطروحة لثني إيران عن امتلاك السلاح النووي".
وتم تسريب سيناريوهات عن تحضيرات امريكية وإسرائيلية عسكرية للقيام بهجوم كاسح على إيران, مما استدعى مساعد وزير الخارجية الإيرانية "منوشهر محمدي"، إلى الرد قائلا: "مستعدون لمواجهة كل الأوضاع, بما فيها نشوب حرب... ليس لدينا أي مشكلة في التعامل مع الولايات المتحدة ....عقدنا لقاءات غير رسمية مع الولايات المتحدة بشأن أفغانستان والعراق، لكنهم يقولون إنه يجب علينا أن نقبل بشروطهم قبل التفاوض.. لكننا إذا قبلنا شروطهم فلا مبرر للتفاوض. ولذلك كنا دائما نقول إننا مستعدون للتفاوض مع الولايات المتحدة دون شروط، لكنهم لم يقبلوا ذلك حتى الآن".
ويبدو أن الرد الإيراني الواثق من أنها مستعدة حتى للحرب، هو رد وهمي، ينطلق من رؤية مفادها أن الولايات المتحدة ضعيفة وتتخبط في مأزق داخلي وخارجي، وأن كل المعطيات، من ارتفاع أسعار البترول إلى سيطرة إيران على مضيق هرمز وإمكانية تهديدها لخطوط نقل النفط العالمية، تشير إلى عدم إمكانية شن الإدارة الأمريكية أي حرب على إيران.
ستكون إيران في غاية الغباء إذا راهنت على أن وضع أمريكا الحالي الغارق في العراق وأفغانستان، ووضع الإدارة الأمريكية الضعيف شعبيا في الداخل، وارتفاع أسعار النفط وغيرها من العوامل، قد تحول دون تمكين أمريكا من شن هجوم على إيران.
لا يمكن المراهنة على هذا التصور، وذلك لأن القيادة الأمريكية الحالية والإدارة المساندة لها، لا تتسم بالعقلانية, بمعنى أنها إذا أرادت القيام بالعمل، فإنها لن تقيم وزنا لهذه القيود, فالقيادة غير العقلانية تكون خطيرة جدا، والأخطر أن يقوم خصمها ببناء خطواته على أساس أن قيادة الطرف الآخر سترد بشكل عادي، أو تتخذ خطوات مدروسة كما جرت العادة, وهنا يكون الخطر مضاعفا والنتائج أكثر كارثية (وقع حزب الله اللبناني في هذا الخطأ في المعركة الأخيرة).
وعلى الرغم من ذلك، فأمريكا لا تزال في الإطار العقلاني، طالما أن باب المفاوضات مفتوح. لكن التصعيد يعني أن المعركة قد تبدأ قريبا, إذ تفيد بعض التقارير أن مكتب نائب الرئيس ديك تشيني وأنصار الخيار العسكري من خارج الإدارة، يعتقدون أن الوقت قد حان من أجل اتخاذ قرار حاسم في هذه المسألة.
ولذلك وبما أن أمام الإدارة الأمريكية سنتين قبل انتهاء ولايتها، وبما أن السنة الأخيرة تكون القيادة الأمريكية فيها في حالة "البطة العرجاء"، تقوم بتصريف الأعمال ولا تتخذ عادة أي قرارات حاسمة سياسية وعسكرية, فهذا يعني أن العام 2007م، قد يكون عام الحسم عسكريا.
فهل ستقع إيران في خطأ آخر للحسابات؟
انطلاقا من هذه الاعتبارات, يبدو أن هناك تحركات إيرانية سرية لتفادي وقوع هذه الحرب، وإن أوحت السجالات الإعلامية بعكس ذلك, فالمتتبع لأوضاع إيران، يرى أن رئيس تشخيص مصلحة النظام الشيخ هاشمي رافسنجاني أصبح يتمتع بقدرة أكبر على لعب دور سياسي، بعدما كان الرئيس الإيراني يحتكر كل أوراق اللعبة, ويبدو أن هذا التغيير تم بتوجيهات عليا من مرشد الجمهورية الإيرانية الخامنئي، ليمكن رافسنجاني من لعب دور مشابه للدور الذي لعبه بتكليف من الخميني في فضيحة إيران-جيت.
وقد بدأت ملامح هذا الدور تظهر شيئا فشيئا، في إشارة ربما لانتهاء دور الرئيس نجاد، الذي استنفذ غرضه من التصعيد. حيث باشر رافسنجاني في شهر شباط/فبراير 2007م حملة تصريحات دبلوماسية في مختلف الاتجاهات، سواء للداخل الإيراني أو للولايات المتحدة, بعدما تسربت أخبار عن تشكيل خلية "أزمة"، تضمّه إلى جانب الرئيس السابق "خاتمي"، وذلك لإيجاد مخرج للمأزق في العلاقة مع أمريكا والوضع الاقتصادي الداخلي الحرج.
وقال "رفسنجاني" في تصريح له في أواخر شباط/فبراير 2007م، ردّا على سياسات احمدي نجاد المتشددة: "على المتطرفين في إيران صون ألسنتهم لئلا تتعرض الجمهورية الإسلامية للخطر". وغمز من قناة نجاد قائلاً: "لن يحققوا نتائج بهذه الطريقة، بل سيخلقون مشاكل لهم وللعالم، خصوصاً منطقتنا", "علينا أن نكون أكثر حذرا, فإنهم (الأميركيون) مثل نمر جريح، ويجب عدم الاستهانة بهم".
فهل سنشهد عقد صفقة إيرانية-أمريكية جديدة، بغض النظر عن شموليتها، أم أن إيران ستقع في خطأ فادح للحسابات، يقودنا إلى جحيم الحرب مباشرة ؟! انتهى.

الكاتب -  علي حسين باكير باحث ومهتم  بالشؤون الاستراتيجية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق