الأربعاء، 18 مايو 2011

الانعكاسات الجيوبوليتكية للأزمة المالية العالمية

مكان النشر: فصلية مدارات استراتيجية- مركز سبأ للدراسات


تاريخ النشر: عدد 6، تشرين ثاني/ كانون اول 2010


وو شنبو: أستاذ ونائب رئيس مركز الدراسات الأمريكية في جامعة فودان بشنغهاي.


ترجمة وإعداد: علي حسين باكير/ باحث في العلاقات الدولية






الانعكاسات الجيوبوليتكية للأزمة المالية العالمية


على الرغم من أنّ الأزمة المالية العالمية التي تفجّرت في خريف العام 2008 تتّجه نحو الانحسار وصولا إلى نهايتها، فما زال من المبكر جدا معرفة مدى حجم الخسائر التي تسببت بها للاقتصاد العالمي بدّقة. فمن المنظور الماكرو سياسي واقتصادي، وضع الاضطراب المالي العالمي هذا وبشكل رسمي حدّا للآحادية القطبية لحقبة ما بعد الحرب الباردة التي شهدت هيمنة القوة الأمريكية ونموذجها التنموي السياسي والاقتصادي العالمي المزعوم ونفوذها الدولي الساحق والذي شكّل علامة فارقة في تلك الحقبة.


وتتميّز الحقبة الجديدة التي تلوح في الأفق ببروز بنية قوّة متعدّدة الأقطاب، وبنماذج سياسية واقتصادية متعددة، وبلاعبين متعدّدين على الساحة الدولية.





معاناة الولايات المتّحدة: 


ارتكز موقع الولايات المتّحدة البارز في العالم على دعامتين أساسيتين: قوتها الاقتصادية والعسكرية الساحقة. ومع ذلك، فقد تعرّضت هاتين الركيزتين إلى التحطّم خلال العقد الماضي. فبينما اختبرت الحروب في أفغانستان والعراق حدود القوة العسكرية الأمريكية، كشفت الأزمة المالية العالمية هشاشة الاقتصاد الأمريكي.


ففي السبعينات والثمانينات، فرضت كل من اليابان وألمانيا تحديات متزايدة على الولايات المتّحدة مقوّضة تفوقها الاقتصادي. لكن في التسعينات، شهدت الولايات المتّحدة أطول دورة للازدهار الاقتصادي على الإطلاق متفوقة على اليابان وألمانيا بأشواط وتاركة إياهمها خلفها.


شكّل الناتج المحلي الإجمالي السنوي للولايات المتّحدة في تلك الفترة الممتدة من العام 1999 وحتى 2001 أكثر من 28% من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي وهي النسبة الأعلى المسجّلة منذ عقود. لكن ومنذ العام 2002، أخذت حصّة الولايات المتّحدة من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي بالانخفاض نسبيا نظرا لتباطؤ نموها الاقتصادي من جهة، وصعود الاقتصادات النامية من جهة أخرى وفي طليعتهم الصين والهند.[1] لقد سلّطت الأزمة الضوء بكل بساطة على ضعف الاقتصاد الأمريكي والتغيّر الكبير في المشهد الاقتصادي العالمي، لعدد من الأسباب منها:


1-  أنّ الولايات المتحدة اعتمدت على الدعم المالي من الصين وعدد من الدول الأخرى لمواجهة الأزمة.


2- أنّ أداء الصين الاقتصادي وأداء الاقتصادات النامية الأخرى خلال الأزمة في العام 2008 و2009 كان أفضل من أداء الولايات المتّحدة.


3- انّ الصين والاقتصادات النامية الأخرى وليس الولايات المتّحدة، هي التي استلمت زمام المبادرة في قيادة الاقتصاد العالمي للتعافي.





لكن وبشكل عام، قد تبقى الأزمة المالية العالمية مجرّد حلقة في سلسلة التغيّرات البعيدة المدى للاقتصاد العالمي. ومن الممكن الجدال في هذا المجال بانّ الأزمة لم تطلق اتجاها جديدا وإنما أدّت إلى تسريع الاتجاه الذي كان قائما أصلا كاشفة عن عمق واتساع التحولات التي أدت إلى بروزها.


لكن ولكون الولايات المتّحدة في صلب الأزمة المالية العالمية، فقد وجهت انتقادات واسعة لنموذجها التنموي. فقد عززت نهاية الحرب الباردة سابقا والطفرة الاقتصادية التي شهدتها البلاد خلال التسعينيات موقع الولايات المتّحدة باعتبارها مركز السياسة الاقتصادية والأداء الاقتصادي في العالم، وقد دفع ذالك واشنطن إلى الترويج لنموذجها التنموي بحماسة. ويقوم لب هذا النموذج على أسطورة الأسواق الحرّة التي تقول أنّ السوق هي العنصر الأكثر فعالية وكفاءة في توليد النمو الاقتصادي، بينا يجب أن ينحصر دور الدولة والحكومة في الحياة الاقتصادية في حدّه الأدنى. لكنّ الاضطراب المالي الذي حصل، كشف الجشع غير المحدود والتدمير الهائل الذي أحدثته "وول ستريت" وسلّطت الضوء على الوجه البشع والخطر للسوق الحرّة. وتمثّل الدرس في أن دور الدولة لا يكمن فقط في التدخل وإعداد خطّة الإنقاذ عندما يقع الاقتصاد في ورطة كبيرة، لكنّ الأهم من ذلك أن هي أن تراقب السوق عن كثب في مختلف الأوقات.


ومن الأسباب الرئيسية التي يعتقد أنّها مسؤولة عن التسبب بالكارثة المالية هي عدم وجود رقابة فعّالة على السوق من جهة إضافة إلى الاعتماد الوائد على الاقتصاد الافتراضي. فمنذ السبعينات حيث كان القطاع الصناعي يمثّل 23.8% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد[2]، وهذه النسبة في تدنّي لصالح القطاع المالي الذي اخذ يتحول إلى العنصر الأكثر مساهمة في المخرجات الاقتصادية للبلاد. ففي العام 2007، أي قبل عام واحد من الأزمة المالية العالمية، بلغ حجم الاقتصاد الافتراضي حوالي 8% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، بينما انخفضت مساهمة القطاع الصناعي إلى 11.7% (في المقابل، بلغت هذه نسبة هذين القطاعين في الصين في نفس العام 4.4% و43% على التوالي.)[3]، فقد بدا واضحا أنّ الاعتماد المتزايد على الاقتصاد الافتراضي أدى إلى نشوء فقّاعة مالية ضخمة انفجرت في نهاية الأمر في خريف عام 2008.


أدّى الاضطراب المالي أيضا إلى التشكيك في استقرار الدولار الأمر الذي دفع بدوره إلى إضعاف ثقة العالم به كأكبر عملة احتياط في العالم. ففي 24 آذار/ مارس 2009، وقبل أسبوع واحد من قمّة العشرين (G-20) في لندن، طالب (Zhou Xiaochuan) حاكم المصرف المركزي الصيني بإيجاد عملة جديدة تحل محل الدولار في التعاملات المالية العالمية.[4] وكان سابقا قد اقترح توسيع حقوق السحب الخاصة (وهو نوع مصطنع من العملة أوجده صندوق النقد الدولي في الستينات) لتسهيل الانتقال من الاعتماد على نظام احتياطي الدولار إلى الاعتماد على نظام احتياط عالمي جديد. ويعكس اقتراح حاكم المصرف المركز قلق اللصين على استقرار النظام المالي العالمي، وهو قلق تتشاطره مع العديد من الدول كروسيا، وتمّ تكراره في تقرير للأمم المتحدة اقترح فيه حينه "إمكانية إنشاء نظام احتياط عالمي جديد، نظام لا يعتمد على الدولار فقط كعملة رئيسية وحيدة للاحتياط العالمي.[5]


وفي الوقت الذي يعتبر فيه إنشاء عملة احتياط دولية جديدة هدفا بعيد المدى، دعت الصين والتي تمتلك حصة كبيرة من السندات الحكومية الأمريكية واشنطن لاعتماد سياسات مالية واقتصادية مسؤولة بشكل أكبر لتفادي حصول المزيد من الانخفاض في قيمة الدولار. وفي القمة الرابعة لمجموعة العشرين (G-20) التي عقدت في تورونتو في حزيران/ يونيو 2010، أعاد الرئيس الصيني هو جنتاو طرح ملاحظاته التي كان أعلنها في اجتماع بطرسبورغ في أيلول/ سبتمبر 2009 داعيا "البلدان الرئيسية التي تمتلك احتياطي كبير من العملات إلى ضرورة أن تأخذ بعين الاعتبار وتوازن بين آثار سياساتها النقدية بالنسبة لاقتصاداتها وبالنسبة للاقتصاد العالمي عبر رؤية تعمل على دعم استقرار الأسواق المالية العالمية". كما شدد على الحاجة إلى تشديد الرقابة على السياسات الماكرو اقتصادية لجميع البلدان خاصة تلك الاقتصادات الرئيسية التي تستخدم عملتها في الاحتياطات العالمية".[6] في الماضي، غالبا ما كانت الولايات المتّحدة هي التي تشير بإصبعها إلى السياسات الاقتصادية والمالية للآخرين. أمّا الآن، فقد أعطت الأزمة الفرصة للدول الأخرى لكي تلوّح بأصبعها على واشنطن.  فالأزمة لم تضعف فقط ثقة الآخرين فقط في استقرار الدولار الأمريكي، وإنما أثارت المخاوف والقلق أيضا حول مدى سلامة السياسات الماكرو اقتصادية لواشنطن.


لقد أدّى الاضطراب المالي إلى تقويض التأثير الأمريكي في الحكم الاقتصادي العالمي. وقد نسبت العديد من الدول لاسيما تلك النامية الأزمة إلى عيوب النظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتّحدة، ونادت بإنشاء نظام مالي عالمي جديد أكثر شمولية وعدلا وإنصافا. في قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في بطرسبورج، قدّم القادة هذا التجمّع "كمنتدى رئيسي للتعاون الاقتصادي العالمي" ووعدوا بنقل ما لا يقل عن 5% من حصّة الكوتا في صندوق النقد الدولي إلى الأسواق الصاعدة والدول النامية، وزيادة على الأقل 3% من حصّة التصويت إلى الدول النامية في البنك الدولي.[7] استخدم الغرب سابقا لأكثر من ثلاثة عقود تجمّع الـ (G-5) والـ (G-7) والـ (G-8) لاحتكار التنسيق في السياسات الماكرو اقتصادية الدولية، وبصفتها قائدة للعالم الغربي، استطاعت واشنطن أن تسوّق أفكارها فيما يتعلّق بالسياسات الماكرو اقتصادية الدولية بين أتباعها من الدول النامية.


أمّا الآن، ومع حلول تجمّع العشرين (G-20) مكان الـ (G-8) كمنصّة أساسيّة لمناقشة الاقتصاد العالمي، أصبح لدى الاقتصادات النامية منتدى تستطيع من خلاله أن توصل مخاوفها واهتماماتها بشكل أكثر فعالية وتأثير. على عكس الاقتصادات المتطورة،  فإنهم أكثر تشكيكا بالدور الأمريكي سواء فيما يتعلّق بكونه نموذجا للتنمية أو قائدا لعمليّة الحوكمة الاقتصادية العالمية. وعلى الرغم من أنّ حصّة الولايات المتّحدة في التصويت في البنك الدولي لم تتقلّص (وكذلك الأمر بالنسبة لحصّتها في صندوق النقد الدولي في المستقبل القريب)، فان زيادة ثقل الأسواق الصاعدة والدول النامية في هذه المؤسسات سيجعل محاولات واشنطن الحصول على دعم لموقفها أكثر صعوبة في المستقبل. 


كما أثارات الأزمة انتقادات لنمط الحياة الأمريكي المتمثّل بالاقتراض الزائد عن حدّه والادخار المنخفض. إذ يسود الاعتقاد على نطاق واسع بأن الاستهلاك المفرط الممول من الاقتراض الزائد عن حده يعد جزءا من المشكلة التي تقف خلف تفجّر الأزمة المالية العالمية. وفي حقيق الأمر، فان ثقافة بطاقة الائتمان جعلت الكثير من الأمريكيين العاديين يعتبرون أنّ الإنفاق المفرط والادخار القليل أمرا مفروغا منه. ولفترة طويلة، ظل الحلم الأمريكي – العيش في منزل كبير واقتناء سيارة فخمة- يغرب الناس على العيش بطريقة أكبر من أن يتحملوها فعليا. بالنسبة للأشخاص خارج الولايات المتّحدة الأمريكية، فان ذلك ليس مجرد موضوع مالي فردي فقط، وإنما موضوع بيئة وطاقة أيضا، طالما أنّ الولايات المتّحدة تستهلك الكثير من الوارد وتنتج الكثير من الغازات الدفيئة ان من حيث المجموع الكليّ أو من حيث حصّة الفرد من هذا المجموع. في الماضي، شكّل نمط الحياة العصرية في الولايات المتّحدة نموذجا مغريا للناس في البلدان النامية مما حفّزهم على العمل الجاد لتحقيق الازدهار الاقتصادي والفورة في المواد. أمّا الآن، فان الحياة البسيطة والصديقة للبيئة تصبح نمطا أكثير تقدّمية من المثال السابق، إذ أنّ نمط الحياة الأمريكي بالنسبة له أصبح مرادفا للإسراف والتبذير فضلا عن تبديد الموارد والطاقة.





مكتسبات الصين:


صحيح انّ الصين عانت اقتصاديا من الأزمة وان  بشكل متوسط، لكنها كسبت في المقابل عناصر اقتصادية وسياسية بشكل ملحوظ. فالنموذج التنموي للصين -الذي يركّز على الدور المحوري للدولة في التنمية الاقتصادية يرتكز على الاقتصاد الحقيقي بدلا من الاقتصاد الافتراضي، ارتفاع معدّل الادخار، التحرير المدروس للأسواق المالية، ..الخ- جعل الصين تتموضع في موقع أفضل لمواجهة العاصفة المالية العالمية وبالتالي لتقلّص بشكل أكبر الخسائر المرتبطة بها إلى اقل قدر ممكن. وكدولة نامية، بدا النموذج الصيني أكثر ملاءمة للعالم النامي. فكما لاحظ أليكس بيري من مجلة التايمز "فان الحكومات الأفريقية نظرت الى عدم الاستقرار الاقتصادي للغرب خلال العامين الماضيين ووجدت نموذجا أفضل في النمو الاقتصادي المذهل لآسيا".[8]


في حقبة ما بعد الحرب الباردة، تمّ تظهير النموذج الأمريكي على انّه السبيل الوحيد لتحقيق الازدهار الاقتصادي. أمّا الآن، فيبدو انّ النموذج الصيني يقدّم بديلا. صحيح انّ النموذج الصيني ليس مثاليا، فهو يعاني حقيقة من تحديات كبيرة كاتساع الفجوة في الدخل والتلوث ا لبيئي الخطير والفساد المستشري. ومع ذلك، فانّ سجّله في التغلب على أزمتين ماليتين (الأزمة المالية الآسيوية 1998-1999) و(الأزمة المالية العالمية 2008-2009) تشهد على قوّته. فعلى عكس واشنطن، لا تحبّذ بكيّن ترويج نموذجها وفرضه على الآخرين، لكنّ السمعة المتزايدة للتجربة الصينية ستعزز بالتأكيد من وضع بكين العالمي وتزيد من نفوذها بين الدول النامية.


لقد كان هناك نقاش دائر أصلا حول ضرورة فصل الاقتصادات الآسيوية عن الولايات المتّحدة قبل مرحلة الأزمة الأخيرة نظرا للنشاطات الاقتصادية المتنامية ما بين الدول الآسيوية نفسها.[9] وحقيقة أنّ الصين أصبحت بالفعل الشريك التجاري الأوّل لعدد من الاقتصادات الرئيسية في المنطقة كيابان وكوريا الجنوبية وتايوان شكّل حافزا إضافيا لزيادة التعاون بين اقتصادات شرق آسيا. 


وحتى في اليابان حيث وصل الحزب الديمقراطي الياباني إلى الحكم في آب/ |أغسطس، فقد لاحظ رئيس الوزراء "يوكيو هاتوياما" بانّ: "أظهرت الأزمة المالية الحالية للكثير من الناس بانّ حقبة الأحادية القطبية الأمريكية قد تنتهي. كما أثارت الشكوك لدى الناس حول قدرة الدولار على البقاء كعملة عالمية رئيسية.

 أشعر أيضا وكنتيجة للفشل في حرب العراق والأزمة المالية العالمية بانّ حقبة العولمة التي تقودها الولايات المتّحدة ستنتهي وبانّنا نبتعد عن حقبة الأحادية القطبية إلى حقبة التعددية القطبية".

[10] وأضاف رئيس الوزراء: "تظهر التطورات الحالية بوضوح، أنّ الصين التي تضم أكبر عدد من سكّان العالم ستصبح واحدة من الدول الرائدة في الاقتصاد العالمي، في الوقت الذي ستستمر فيه أيضا بالتوسع في قوّتها العسكرية".

[11] لقد تعهد رئيس الوزراء بتقوية علاقات بلاده مع دول آسيا وخاصة مع الصين لبناء مجتمع شرق آسيا. ولا شك انّه وضع هذا وفي ذهنه أهمية الصين المتزايدة بالنسبة للاقتصاد الياباني مستقبلا.


وكما اليابان، أعربت كوريا الجنوبية عن حماستها بعقد اتفاقية للتجارة الحربة مع الصين في أقرب وقت ممكن. ووقعت تايوان أيضا في يونيو 2009 مع الصين الأم اتفاقية إطار التعاون الاقتصادي (ECFA) ما يعدّ خطوة كبيرة إلى الأمام في العلاقات بين الكيانين عبر المضيق. وينص الاتفاق على توحيد التعرفة الجمركية وعلى ضمان سهول الوصول إلى الأسواق على أن يتم إلغاء التعرفة الجمركية بموجبه خلال سنتين وتطبق على أكثر من 539 سلعة تايوانية مصدّرة إلى الصين بقيمة 13.84 مليار دولار كما على 267 سلعة صينية مصدّرة إلى تايوان بقيمة 2.86 مليار دولار.

 وسيتيح الاتفاق أيضا للمؤسسات والشركات التايوانية الوصول إلى 11 قطاع خدمات في الصين الأم من بينها البنوك، والمحاسبة، والتأمين والاستشفاء.[12] ولا شك أنّ الأزمة المالية سمحت لبكّين بتشجيع الاستهلاك الداخلي أيضا، وهو الأمر الذي سيسمح للصين -طالما أنّه في تصاعد مستمر- أن تعزز روابطها الاقتصادية مع شركائها الإقليميين ويقوي من دورها كمحور اقتصادي في شرق آسيا.


باختصار، أكّد الإضراب المالي والاقتصادي موقع الصين كمحرّك للاقتصاد الإقليمي الآسيوي لا بل للاقتصاد العالمي أيضا. على صعيد السياسة الدولية، فمن المعروف أنّ العلاقات السياسية والاقتصادية تتبعان بعضهما البعض. بعد الحرب العالمية الثانية، قامت العديد من الدول الإقليمية بتطوير علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكي تبعها ترتيبات أمنيّة وسياسية مع واشنطن. ومن نفس المنظور، فان تعميق الروابط الاقتصادية الصينية مع شركائها الإقليميين حاضرا ومسقبلا يعد بتوسيع نفوذها السياسي في شرق آسيا.


آخذين بعين الاعتبار نمو حجم الصين الاقتصادي وأدائها الممتاز خلال الأزمة، فانه ليس من المستغرب أنّ  الاضطراب المالي العالمي أدى إلى رفع مكانة الصين في الحوكمة الاقتصادية العالمية. كما ظهرت الأزمة مجموعة العشرين (G-20) كمنتدى رئيسي للتعاون الاقتصادي العالمي مغطّية على الدور التقليدي لمجموعة الثماني الكبار (G-8) في الاقتصاد العالمي. واحتلت الصين قلب مجموعة العشرين لكونها تحتل المرتبة الثالثة في الاقتصاد العالمي ولكونها صاحبة أكبر احتياطي عملات أجنبية في العالم.

 كما راجت فكرة إنشاء مجموعة الـ (G-2) التي تضم الولايات المتّحدة والصين لادارة الاقتصاد العالمي والجيوبوليتكا الدولية بين الباحثين الأمريكيين والمسؤولين السابقين (على الرغم من أنّها لم تلق ترحيبا لا من واشنطن ولا من بكين) تمثّل اعترافا بالوزن الاقتصادي والجيبوليتيكي الذي اكتسبته بكين حديثا. ففي نيسان/ أبريل 2010، قرر البنك الدولي رفع حصّة التصويت الخاصة بها في هذه المؤسسة لتصبح ثالث أكبر مصوّت، ومن المتوقع أن يقوم صندوق النقد الدولي بنفس الأمر فيعزز تمثيل الصين فيه.


في المجمل، فقد أفادت الأزمة المالية الصين بتسريعها المرحلة الانتقالية للقوة الاقتصادية والمالية محوّلة الصين من لاعب هامشي إلى لاعب أساسي. أخيرا وليس آخرا، أعطت الأزمة العملة الصينية (اليوان) سمعة حسنة لقوّتها واستقرارها. صحيح انّه الفترة التي سبقت الأزمة أيضا كان "اليوان" يستخدم في التجارة الثائية بين عددا من جيران الصين، لكنّ الأزمة المالية كشفت عدم استقرارا الدولار الأمريكي وسلّطت الضوء في المقابل على قوّة "اليوان" الصيني.

وعلى الرغم من انّ اليوان اليني لا يتمتع بحريّة التحويل، فقد أبدا بعض كبار الشركاء التجاريين للصين رغبتهم في زيادة الاعتماد عليه في الوقت الذي كان يعاني فيه ا لدولار الأمريكي من الضعف، الأمر الذي أثار قلقا من أن يؤدي عدم استقرار الدولار إلى رفع التكاليف والمخاطر في التجارة. ومنذ بدء الأزمة، وقّعت الصين اتفاقيات تبادل عملات ثنائية مع الأرجنتين وبيلاروسيا وايسلاندا وأندونيسيا وماليزيا وهونغ كونغ وسنغافورة وكورية الجنوبية بحجم إجمالي كلي بلغ حوالي 803.5 مليار "يوان" (أي حوالي 118.1 مليار دولار). وقامت بعض الدول أيضا بالاعتماد على اليوان الصيني كواحدة من العملات التي يمكن الاعتماد عليها في احتياطياتها من العملات الأجنبية.


لقد دفعت الأزمة بكّين إلى التفكير جدّيا في جعل اليوان الصيني عملة إقليمية. وفي بداية العام 2009، وافقت الصين على طموح شنغهاي بالتحوّل إلى مركز مالي عالمي بحلول العام 2020 والتوفيق بين نفوذ الصين الاقتصادي ومكانة عملتها على الصعيد العالمي. ستكون رحلة اليوان الصيني  ليصبح عملة رئيسية للاحتياط الدولي طويلة بطبيعة الحال، لكن من الواضح أنّ اندلاع الأزمة المالية شكّل نقطة الانطلاق لهذه الرحلة.





ما الذي يتغيّر في العالم؟


من المنظور التاريخي الواسع، فان الأزمة المالية العالمية سجّلت بعض التطورات وعجّلت من أخرى سيكون لها تأثير كبير على المدى البعيد فيما يتعلق بالسياسة العالمية وبالوضع الاقتصادي.


أولى هذه التطورات: تطوّر البنية الهيكلية للقوة الدولية. فإذا كان هناك أحادية قطبية في فترة التسعينات فقد ذهبت هذه الحالة، والعالم يتّجه الآن بعيدا عنها بسرعة. وسواء كانت البنية الهيكلية الجديدة للقوة في العالم متعددة الأقطاب أو لا قطبية أو شيئا آخر، فهي أكّدت على شيئ واحدا على الأقل بشكل واضح ألا وهو أنّ قيادة الحوكمة الدولية سيعاد هيكلتها، وستحتل الدول النامية أو دول العالم غير الغربية موقعا متقدّما في القيادة الجديدة وسيكون صوتها مسموعا.

 فالصعود الاقتصادي للأسواق الناشئة والدول النامية بدا واضحا حتى قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية، ومع ذلك فقد أتاحت الأزمة الفرصة لهم بترجمة وزنهم الاقتصادي المتنامي إلى نفوذ اقتصادي وسياسي.


ثانيها: الدور المتحوّل للولايات المتّحدة في الشؤون الدولية، حيث تمّ اعتبار أمريكا جزءا من المشكلة وجزءا من الحل أيضا. فمن احتلال العراق إلى الأزمة المالية العالمية تشوّهت صورة الولايات المتّحدة كمنارة للأداء الاقتصادي والسياسي في العالم. فقد أظهرت الحرب على العراق بأنّ بإمكان الولايات المتّحدة إساءة استخدام قوتها وتحدي المجتمع الدولي لصالح أولوياتها، بينما برهن الاضطراب المالي العالمي بأنها قادرة على إلحاق الأذى الاقتصادي بالعالم بما يفوق قدرة أي طرف على فعل ذلك.

 وبما أنّه لم يعد بإمكان واشنطن أن تلعب دور الناصح في المسائل المتعلقة بالحوكمة المحليّة أو العالمية، فانه لن يكون بإمكانها أن توجّه الأوامر للآخرين حولها. وباعتبار أنّ الولايات المتّحدة وبوصفها قوة اقتصادية وعسكرية، فانه لن يكون بالإمكان الاستغناء عنها فيما يتعلق بحل المشاكل التي تواجه العالم، لكن المؤكّد أن موقعها ونفوذها في العالم تراجع بشكل كبير.


ثالثها: أنّ العالم أصبح يشهد الآن جهودا أكثر جديّة في البحث عن نماذج جديدة في الحكم والتعاون الإقليمي والتنمية المحلّية. كما يشهد دعوات لمفاهيم تقدّمية مثل "العمل الجماعي الفعّال"، "المسؤوليات المشتركة لكن المتباينة"، "الربح المتبادل"، "توازن المصالح"، "عالم متناغم"، إلى جانب إنشاء نظام اقتصادي وسياسي دولي مستقر وعادل ومنصف يستطيع أن يعزز التعاون في الحكم الدولي إلى أعلى مستوى. كم يتم توجيه التعاون الإقليمي ليس فقط باتجاه تعزيز النمو الاقتصادي وإنما أيضا باتجاه المحافظة على الاستقرار الإقليمي الاقتصادي والمالي.


أمّا فيما يتعلّق بالتنمية الاقتصادية والسياسية الداخلية المحليّة، يلاحظ ابتعاد الدول عن فكرة تبنّي أو إتباع نموذج عالمي باتّجاه اتّخاذ موقف أكثر واقعية واستكشاف طرق أكثر ملاءمة لمعطياتهم الداخلية وظروفهم المحليّة. كما سيأخذ النقاش حول نماذج التنمية المختلفة حيزا من وقت إلى آخر، فباستثناء حفنة من الأيديولوجيين، فان مثل هذه التطورات ستكون مدفوعة بمدى الفعالية التي ستحققها وليس بالأيديدلوجيا.


[1] See U.S. Department of Agriculture, ‘‘Real Historical Gross Domestic Product (GDP) and Growth Rates of GDP,’’ November 2, 2009, http://www.ers.usda.gov/Data/Macroeconomics/ [See dataset titled ‘‘Real GDP (2005 dollars) Historical’’]


[2] This figure is calculated based on data from U.S. Department of Commerce, Bureau of Economic Analysis, ‘‘72SIC_VA, GO, II,’’ June 17, 2004, http://www.bea.gov/industry/xls/GDPbyInd_VA_SIC.xls.


[3] See Brian M. Lindberg and Justin M. Monaldo, ‘‘Annual Industry Accounts: Advance Statistics on GDP by Industry for 2007,’’ U.S. Department of Commerce, Bureau of Economic Analysis, May 2008, http://www.bea.gov/scb/pdf/2008/05%20May/0508_indy_acct.pdf and National Bureau of Statistics of China, China Statistical Yearbook 2008 (Beijing: China Statistics Press, 2008), pp. 38, 42.


[4] See Zhou Xiaochuan, ‘‘Reform the International Monetary System,’’ March 23, 2009, http://www.pbc.gov.cn/english//detail.asp?col6500&ID178.


[5] UN Department of Economic and Social Affairs, ‘‘World Economic and Social Survey 2010: Retooling Global Development,’’ E/2010/50/Rev.1, 2010, p. XXII. http://www.un.org/esa/policy/wess/wess2010files/wess2010.pdf.


[6] Hu Jintao, speech, fourth summit of G-20, Toronto, June 27, 2010, http://www.fmprc.gov.cn/eng/topics/hujintaoG20fenghui/t712730.htm. Also see Hu Jintao, ‘‘Make Every Effort to Promote Growth and Balanced Development’’ (remarks, third summit of G-20, Pittsburgh, September 25, 2009), http://www.fmprc.gov.cn/eng/topics/hujintaoG20fenghui/t607838.htm.


[7] See Ministry of Foreign Affairs of the People’s Republic of China, ‘‘G20 Issues Leaders’ Statement of the 3rd Financial Summit,’’ September 26, 2009, http://www.fmprc.gov.cn/eng/topics/hujintaoG20fenghui/t616883.htm.


[8] Alex Perry, ‘‘China’s New Focus on Africa.’’ Time, July 24, 2010, http://205.188.238.


109/time/specials/packages/article/0,28804,2000110_2000287_2000276-2,00.html.


[9] See William Pesek, ‘‘Asia’s Decoupling from US economy ‘a myth’,’’ May 9, 2007,


http://forum.stirpes.net/economics/11637-asia-s-decoupling-us-economy-myth.html and


Bruce Nussbaum, ‘‘Coupling and Decoupling in Davos,’’ Bloomberg Businessweek,


January 23, 2008, http://www.businessweek.com/innovate/NussbaumOnDesign/archives/


2008/01/coupling_and_decoupling_in_davos.html.


[10] Yukio Hatoyama, ‘‘Japan Must Shake Off U.S.-Style Globalization,’’ Christian Science Monitor, August 19, 2009, http://www.csmonitor.com/Commentary/Opinion/2009/0819/p09s07-coop.html.


[11] Ibid.


[12] Xie Yu and Ma Wei, ‘‘Cross-Straits Trade Deal to Cut Tariffs, Open Markets,’’China Daily, June 30, 2010, http://www2.chinadaily.com.cn/china/2010-06/30/content_10037141.htm.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق