الأحد، 24 يوليو 2011

إيران في العراق: من التدخل إلى الهيمنة إلى الافتراس



موقع العراق للجميع 21-شعبان-1432هـ / 22-يوليو-2011م

في بداية شهر تموز الجاري، راجت معلومات عن قرب قيام نائب الرئيس الأميركي بايدن بزيارة العراق، غير أنّ من حضر بعد أيام قليلة كان نائب الرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي، يرافقه وفد ضخم، فاق عدد أعضائه المائتين، بينهم سبعة وزراء.
وقبل أن يصل رحيمي بأيام قليلة، أعلن وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري من طهران التي زارها أخيراً، أنّ تقدماً كبيراً قد تحقق في ملف الخلافات الحدودية وغيرها، بين العراق وإيران. التقى رحيمي بالمالكي ومسؤولين عراقيين آخرين، ووقع على ست اتفاقيات كبيرة، أغلبها اقتصادي، قفزت بقيمة التبادلات التجارية الحالية بين البلدين من ستة مليارات دولار إلى أكثر من عشرين ملياراً، ليكون العراق بذلك الشريك الاقتصادي الثالث لإيران على المستوى العالمي. نفتح قوساً صغيراً هنا للتذكير بأنّ هذا المبلغ هو نفسه الذي حاول رئيس الوزراء التركي أردوغان الحصول عليه حين وقع مع المالكي مجموعة اتفاقات مشابهة خلال العام الجاري، لكن البرلمان العراقي قرر تجميدها، بانتظار تغيير تركيا لموقفها المتشدد الرافض لإطلاق حصة العراق العادلة من مياه دجلة والفرات. حصة محبوسة خلف السدود التركية العملاقة، في وضع ينذر بكارثة حقيقية بلغت درجة التحذير من نشوب حرب أهلية بين قبائل العراق في الوسط والجنوب، بسبب المياه المتناقصة يوماً بعد آخر.

كان أردوغان يطمح إلى الصعود بالحصة التركية من الاقتصاد العراقي الواعد، من عشرين إلى سبعين ملياراً، لكنّه لن يقترب كما يبدو من هذا الهدف، إلا بعد أنْ يحوّل العراق إلى صحراء حقيقية، مستفيداً من الضعف والتفريط اللذين تبديهما حكومة بغداد. فجميع أطرافها يدافعون بالأظفار والأسنان عن مصالحهم الطائفية، وبما أن دجلة والفرات ليسا طائفيين ـ شيعيين أو سنيين ـ فلا أحد يتجشم عناء الدفاع عنهما. بالعودة إلى زيارة رحيمي، وخصوصاً إلى ذروتها السياسية التي تجلت في تصريح مستفز أدلى به الزائر، ومفاده أنّ «إيران سوف تقترح على العراق السيطرة الأمنية في حال انسحاب قوات الاحتلال»، وبغض النظر عمّا قيل في تفسير عبارة «السيطرة الأمنية»، وسواء عَنَتْ مساعدة القوات العراقية أو مشاركتها في تولي مهماتها مباشرة، فإنّها أقنعت حتى أكثر الأطراف دفاعاً عن «براءة إيران» بالحجم غير المحتمل لهيمنتها السياسية على العراق المحتل. هيمنة تتكرس باطراد هذه الأيام، وتحوّلت أخيراً إلى إطباق اقتصادي وأمني شامل وعميق. لقد ظلّت تصريحات رحيمي تلك دون ردود أفعال من أقطاب حكومة المحاصصة، ومن زعماء الأحزاب الصديقة لإيران خصوصاً. وحتى المالكي الذي اعتاد سابقاً القيام بدور المتحفظ والمراوغ والمعرقل للتصرفات والتصريحات الإيرانية، لاذ بالصمت هذه المرة، ولم يعلق عليها بشيء.

أما الزعامات الكردية، فقد ظلّت على مواقفها القديمة من إيران، فهي صديقة لها بمقدار ما كانت موافقة أو ساكتة على مكتسبات تلك الزعامات. من اليسير اليوم أن يبحث البعض عن روائح صفقة أميركية ـ إيرانية لتنظيم تقسيم الكعكة العراقية.

تلك الروائح لم تعد مجرد احتمالات نظرية، أو شعارات يرفعها المتطرفون القوميون أو الطائفيون ممن أدمنوا معاداة إيران حقاً أو باطلاً، بل ثمة الكثير مما يرجحها على أرض الواقع. من ذلك مثلاً، أنّ زعيم التيار الصدري المقيم في إيران مقتدى الصدر، وبعدما أطلق سلسلة تهديدات بأنّه سيرفع التجميد عن نشاط ميليشيات «جيش المهدي» ضد قوات الاحتلال إذا لم تنسحب، تراجع وأصدر بياناً جديداً بعد زيارة رحيمي بيومين، أعلن فيه أنّ التجميد سيظل سارياً حتى إذا لم تنسحب قوات الاحتلال وتم التمديد لبقائها. أما المبرر الذي ساقه الصدر لقراره فهو غريب حقاً، إذْ ردَّه إلى وجود مفاسد داخل «جيش المهدي». ومع أنّ التيار الصدري يبدو في الظاهر منسجماً ومتماسكاً على طريقة الأحزاب العقائدية والتوتاليتارية «الشمولية» الأخرى، فهو يستبطن خلافات كثيرة بين قياداته بلغت درجة الانشقاق العلني أحياناً.

فحين صدرت تصريحات إيرانية على لسان مرشد الحكم الإيراني خامنئي قبل فترة، تطالب بغداد الرسمية برفض التمديد لبقاء قوات الاحتلال، تصدى لها القيادي الصدري حاكم الزاملي بالرفض وقال إنّ «الشعب العراقي لا يمتثل لأي جهة خارجية سواء كانت من إيران أو من السعودية أو سوريا في التمديد لبقاء القوات الأميركية». وأضاف بصراحة غير معهودة أنّ تلك الدعوة عندما «تأتي خاصة من إيران ستؤكد أنّ الحكومة العراقية تابعة لإيران، وهذه مشكلة كبيرة للكتل السياسية التي تربطها علاقة مع إيران...».

 ربما يكون الزاملي قد أطلق تلك التصريحات لامتصاص غضب القواعد الصدرية أو كتلته الناخبة، وهي في ضمور مستمر كما يؤكد مراقبون، وخصوصاً حين قال إنّ على العراقيين ألا ينصاعوا لأوامر إيران بإغلاق معسكر أشرف، فيما كان رئيس الجمهورية الفخري جلال طالباني يبشر القيادة الإيرانية بأنّ هذا المعسكر للمعارضين الإيرانيين سيغلق قريباً.

 لكنّ تلك التصريحات تؤكّد ما قيل عن خلافات في القيادة الصدرية أولاً، ولكنّها ـ ثانياً ـ لا تفسر لنا تراجع الصدر عن تهديداته برفع التجميد عن ميليشياته، إلا بربط كل هذه التطورات مع ما قيل عن صفقة أميركية ـ إيرانية تسمح لإيران بتطوير هيمنتها السياسية والاقتصادية على العراق، بما يجعلها أقرب إلى الاحتلال غير المباشر، مقابل أن يحصل المحتل الأميركي المنسحب جزئياً على بعض الفتات من الساحة العراقية. لم تتمكن إيران من تطويع قيادات الأحزاب الإسلامية الشيعية وأغلب القيادات الكردية فقط، بل وحتى أجزاء من الأحزاب الممثلة للعرب السنة.

صحيح أنّ محاولتها في الموصل فشلت حين رفض محافظها أثيل النجيفي هدية السفير الإيراني «سيارة حديثة فاخرة»، لكنّها قد تنجح في أماكن أخرى باستعمال هدايا من نوع آخر! يمكن أيضاً، أن نربط بين «الانتصارات الإيرانية» في العراق المحتل، وبين الذعر ذي الجذور الطائفية والمذهبية في المناطق ذات الأغلبية السكانية العربية السنية.

هذا الذعر المبرر الذي انفجر وبلغ درجة التهديد بالانفصال وتشكيل إقليم شبه مستقل بذريعة الإقصاء والتهميش، وهي ذريعة قوية ولا يمكن نكرانها، لم يأتِ من فراغ. إنّ بلوغ هذا السقف الأقصى في ردود الأفعال يعطينا تصوراً أوّلياً عما يمكن أن تلحقه إيران من أضرار وكوارث قد تدمر وحدة العراق الجغرافية والسياسية عبر سياسة الهيمنة والافتراس الاقتصادي والأمني، مستغلة وجود حلفائها في الأحزاب الإسلامية الشيعية الضعفاء وحكمهم المنخور بالفساد.

ويقيناً ستكون هذه الأضرار الإيرانية أشد فتكاً في المستقبل المنظور بحلفاء إيران في تلك الأحزاب، لأنّها محكومة بحساسية شديدة لدى جماهيرها من التبعية لإيران، رغم الجامع المذهبي والطائفي. الأمر الذي سيحوّل هذه الأحزاب، وفي المقدمة منها حزب المالكي والتيار الصدري، إلى قوى هامشية ومنبوذة، أسوةً بما حدث لحليف إيران الأقرب المجلس الأعلى، بقيادة الحكيم في الانتخابات التشريعية الأخيرة. لن تصب تلك التطورات في مصلحة الخصم التقليدي للإسلاميين الشيعة ولإيران، أي قائمة علاوي كما قد يعتقد البعض، فالأخيرة لم تسلم من الانحرافات الطائفية الخطيرة لبعض مكوناتها والأداء الملتبس والفئوي لقيادتها، ما يجعلها ليست بعيدة عن مصير الأحزاب الإسلامية الشيعية في التشرذم والضمور، بل ستصب في مصلحة بديل وطني ديموقراطي آخر، تأخر ظهوره كثيراً.

لقد احتفلت إيران بـ«انتصاراتها» في العراق، فأجّجت أكثر المشاكل تعقيداً له ولمكوناته المجتمعية، لكنّها عادت بعد يومين إلى ممارسة سياسة التصلب والترهيب، حين قطعت مياه نهر «الوند» عن محافظة ديالى التي تعاني نقصاً فادحاً.

وكما هو متوقع، لم تحرك حكومة المالكي ساكناً، غير أنّ رد الفعل الشعبي كان واعداً ومتقدماً، إذْ تظاهر سكان المناطق المتضررة، وخصوصاً في ضواحي «خانقين»، وقطعوا الطريق الاستراتيجي الرابط بين العراق وإيران. أما في الجنوب فاعتقال الصياديين العراقيين والاعتداء عليهم من حرس الحدود الإيراني مستمر، وحفر الآبار النفطية في المناطق الحدودية المختلف عليها مستمر أيضاً، والنفايات والملوثات السائلة لا يكاد يتوقف تدفقها نحو الأراضي العراقية حتى يبدأ مجدداً.

تلك مظاهر معلنة للهيمنة الإيرانية المتفاقمة ولسياسة التصلب والترهيب، فما بالك بما خفي واستتر!


الكاتب :- علاء اللامي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق