السبت، 2 يوليو 2011

موقف إيران من الأزمة السورية

مفكرة الإسلام 28-رجب-1432هـ / 30-يونيو-2011م

في عام 1980، أي بعد عام واحد من اندلاع الثورة الإيرانية، انطلقت حركة احتجاجية في بلدة جسر الشغور السورية أضرم المشاركون فيها النيران في المؤسسة الاستهلاكية واقتحموا مقر حزب البعث، فأرسل الرئيس حافظ الأسد تعزيزات عسكرية إلى البلدة، وجرت مواجهات سقط فيها خمسون قتيلاً، وفُرض حظر التجول في جسر الشغور.

 وبعد ذلك بعامين أي في عام 1982، وعلى خلفية اتهام نظام الأسد جماعة الإخوان المسلمين بتدبير حادثة كلية المدفعية، جرى التعامل بعنف مفرط مع معقل الجماعة في مدينة حماة، فدكت المدينة دكاً، وبلغ عدد الضحايا وفق أقل التقديرات عشرة آلاف شخص.

في الحالتين كان الموقف الإيراني عصيباً وحرجاً؛ لأن قمع مستضعفين على هذا النحو في ذروة الزخم الثوري الإيراني، وفي ظل إمامة الخميني الذي كان يعد بلاده لقيادة العالم الإسلامي، دون أن تتحرك الجمهورية الإسلامية لنصرة هؤلاء المستضعفين، بل تحتفظ بعلاقات وطيدة مع نظامهم الحاكم، كان يشير بوضوح إلى الفجوة العميقة بين شعارات الثورة الإيرانية وسياساتها.

 بطبيعة الحال لم يكن أحد يتصور أن يكون التحرك الإيراني المقصود من النوع العسكري في وقت كانت توجد فيه جبهة مفتوحة مع العراق، لكن كانت هناك بدائل أخرى تستطيع من خلالها إيران أن تصل إلى دبلوماسية توفق بين حفاظها على علاقتها مع النظام السوري الذي ساندها من أول لحظة، وبين حرصها على الشعب السوري بأكثريته المسلمة المستضعفة، لكن الجمهورية الإسلامية التزمت الصمت، وساعدها على ذلك أن الأبعاد الحقيقية والكاملة لما جرى بالذات في حماة لم تتكشف إلا بعد أعوام في ظل تخلف وسائل الاتصال في حينه.

وعندما كتب خمسة عشر تلميذاً من أبناء مدينة درعا شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" على جدران مدينتهم لم يكونوا يعلمون بالتأكيد المسار الذي سوف تتخذه الأحداث. فمثل كرة اللهب انتقلت المظاهرات التي اندلعت من مدينة درعا إلى أنحاء متفرقة من سورية ومنها إلى مدينة حماة التي سقط في مواجهاتها نحو ثلاثة وخمسين قتيلاً وعشرات الجرحى والمصابين. لكن الأخطر كان ما وقع في مدينة جسر الشغور، حيث قتل مائة وعشرون من رجال الأمن، وقُدمت في تفسير ذلك روايتان متضاربتان.

 رواية رسمية تحدثت عن إطلاق الرصاص على رجال الأمن بواسطة حركة مسلحة، ورواية شعبية أشارت إلى أن إطلاق الرصاص على رجال الأمن تم بواسطة زملاء لهم رداً على رفضهم فتح النار على المدنيين المشاركين في المظاهرات.

إذا تأملنا مفردات السياق الذي وقعت فيه الانتفاضة السورية في عام2011 سنجدها تختلف بالكلية عن نظيرتيها في عامي 1980 و1982، ورغم ذلك فقد تشابه رد الفعل الإيراني في الحالات الثلاث، وتعمقت بالتالي عدم مصداقية الشعارات الإيرانية عن "المظلومية" و"الاستضعاف"، ويتضح ذلك في نقاط عدة: -

1ـ من مفردات الاختلاف بين سياقي الثمانينيات والألفية الثالثة أن الانتفاضة السورية الراهنة هي جزء لا يتجزأ من حركة الشارع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا.

وهذا معناه أن رد الفعل الإيراني من كل الحراك الشعبي العربي يجب أن يوضع في إطار مقارن.

وهنا ستبدو المفارقة بين اعتبار الخطاب الرسمي الإيراني أن الحراك الشعبي العربي استلهم "روح الثورة الإسلامية الإيرانية" في إشارة إلى حالات مصر واليمن وتونس وليبيا، وبين استثناء ذلك الحراك الذي جاء بتحريض من الخارج في إشارة إلى حالة سورية.

كما ستبدو المفارقة أشد بين التعاطف الفوري والمطلق مع مطالب المحتجين في البحرين، والتلويح باحتمال التدخل العسكري رداً على تدخل قوات درع الجزيرة، وبين الاكتفاء المبهم بالمطالبة بعدم استخدام القوة ضد المدنيين مع تأكيد أن ما يجري في سورية هو شأن يخصها وحدها، والتحذير من أن إطاحة النظام السوري يخدم مصالح إسرائيل.

ويُلاحظ هنا أنني تحفظت في الحديث عن تدريب إيران لمسؤولي الأمن في سورية على وسائل قمع الانتفاضة، أو تورط الحرس الثوري في هذا القمع على نحو ما تشير المصادر الغربية، نظراً لعدم توفر أدلة ملموسة. علماً بأن تلك الاتهامات كانت من وراء شمول رئيس الحرس الثوري نفسه بعقوبات من الاتحاد الأوروبي في حزيران/يونيو2011.

2ـ من مفردات الاختلاف أيضاً أن إيران تعيش منذ عام 2009 على وقع عدم استقرار داخلي بسبب تداعيات الاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية وما تلاها من تطورات.

وعندما وقعت الثورتان المصرية والتونسية أرادت الحركة الخضراء التي ترمز للمعارضة الإيرانية استثمار هذا المناخ من أجل تعزيز مطالبها السلمية بالإصلاح السياسي. لكن كما ميزت إيران بين انتفاضة الشعب السوري والانتفاضات العربية الأخرى، فإنها ميزت بين انتفاضة شعبها نفسه وانتفاضات مجمل الشعوب العربية.

 فلقد دأبت الماكينة الإعلامية الإيرانية على وصف رموز الحركة الخضراء بالمتآمرين والعملاء والخونة، وطالب بعض أقطاب النظام الإيراني بحرمان هذه الرموز من حقوقها السياسية، ودعا بعض آخر إلى إعدامهم!!

 علماً بأن جانباً من هذه الرموز خضع فعلاً للإقامة الجبرية. وتلك السياسة المزدوجة تزيد في إحراج النظام الإيراني أكثر مما كان عليه الحال في مطلع الثورة.

 فمن الصحيح أنه في الأعوام الأولى من ثمانينات القرن الماضي كان هناك صراع داخل إيران بين قوى الثورة والقوى المضادة، لكن هذا الصراع يختلف كلياً عن نظيره حالياً حيث تنتمي رموز الحركة الخضراء من أمثال موسوي وكروبي وخاتمي إلى المؤسسة الدينية نفسها، وتنصب مطالبها على الإصلاح في داخل النظام وليس إطاحته.

3ـ إن الثورة الاتصالية الكبرى التي نعاصر ثمارها جعلت دخائل النظام معروضة على فضائيات العالم كله. وبالتالي فمن الصعب جداً أن تدافع إيران عن قتل الطفل حمزة الخطيب، أو عن انتهاكات حرائر سورية، أو عن دوس جثث القتلى بأحذية رجال الأمن.

 ومثل هذا العنصر لم يكن متوفراً في القرن الماضي، ومع ذلك يبدو أنه لم يؤثر في شيء على سياسة إيران بحيث تدعو النظام السوري إلى الانحناء أمام العاصفة وتجربة السير قدماً في طريق الإصلاح السياسي، وعدم وضع العربة أمام الحصان باشتراط أن تستقر الأوضاع قبل إجراء الإصلاح.


وإذا كان الثبات على الموقف رغم اختلاف سياق الألفية الثالثة عن سياق الثمانينيات يكبد إيران ثمناً باهظاً، لا أدل عليه من الهتاف ضدها في المظاهرات التي اجتاحت المدن السورية، فإن السؤال هو: لماذا لم يتغير شيء في الموقف الإيراني؟

1ـ لقد كانت أمام إيران فرصة كبيرة للاستفادة من تغيّر خريطة المنطقة بسقوط بعض النظم الموالية للولايات المتحدة، وهي في ذلك تحتاج إلى الحليف السوري القوي.

 ويكفي فقط أن نطلع على بعض ما يمكن أن يسببه استمرار الأزمة السورية من ارتباك في ساحات بالغة الأهمية بالنسبة لإيران، كالساحة الفلسطينية على سبيل المثال، عندما تجد حركة حماس التي تنتمي للإخوان المسلمين نفسها مطالبة بإدارة ظهرها للإخوان المسلمين في سورية كونها، أي الحركة، تحظى بدعم نظام الرئيس بشار الأسد، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تأثير على علاقة حماس بإخوان مصر، أو ما يمكن أن يترتب على عودة "المجاهدين" السوريين الذين عبروا الحدود إلى العراق وشاركوا في المقاومة، إلى بلادهم، علماً بأن لإيران نفوذاً أكبر بكثير في العراق عن سورية، وبالتالي فهي أقدر على ضبط نشاط هؤلاء "المجاهدين" في الساحة العراقية.

 أو ما يمكن أن يؤدي إليه تسخين الجبهة اللبنانية على نحو ما حدث باندلاع المواجهات بين العلويين والسنة في طرابلس.

2ـ إن إيران تعلم علم اليقين أن هناك دوراً للخارج في أحداث سورية، وليس هو دور المنشئ ولكنه دور المستفيد والمُصَعِد، وأن أحد أسباب هذا الدور هو فك التحالف بين سورية وإيران، سواء أكان لجهة التمهيد لتعامل مختلف مع الملف النووي الإيراني، أم لجهة الإعداد لتفاوض سوري-إسرائيلي كانت تركيا قد شرعت في تهيئة أجوائه قبل حادثة السفينة مرمرة، وبالتالي فإن أحد مبررات موقف إيران من سورية هو إحباط المسعى الغربي لفك تحالف يربو عمره على الثلاثين عاماً.

3ـ تريد إيران أن تكرس التمييز بين حراك شعبي عفوي وحراك شعبي مصنوع، فهذا يخدم منطقها في التعامل مع الحركة الخضراء، ويبرر موقفها المزدوج حين ترى ما يصلح لشعوب عربية لا يصلح للشعب الإيراني.

المعطيات السابقة تفيد أن إيران ستظل حريصة على الدعم المطلق للنظام السوري في مواجهة الحركة الاحتجاجية الشعبية، وأنها لا تستطيع أن تحذو حذو تركيا التي قامت بمراجعة سياسية لما يحدث، و انتقلت من التحفظ إلى دعم المحتجين السوريين ثم إلى الاصطفاف بالكامل إلى جانبهم. ومن المفارقة أن الغرب، الذي يريد إضعاف إيران عن طريق إضعاف نظام الأسد، يقدم للنظام الإيراني خدمة جليلة عندما يلوح بإحالة الملف النووي لمجلس الأمن، أو يعد مشروع قرار يصدر عن المجلس يتضمن إدانة صريحة للأحداث في سورية؛.

 فمثل تلك التحركات، ولاسيما في ظل ما حدث في ليبيا، تؤكد التفسير التآمري للأحداث في سورية، وهو التفسير الذي يلتقي حوله الطرفان السوري والإيراني وأطراف عربية أخرى تعتقد أن تصحيح مسار النظام السوري يؤدي حتماً لانهياره، بينما أن العكس بالضبط هو الصحيح.

الكاتب :- د. نيفين مسعد
المصدر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق