الاثنين، 9 مايو 2011

تغيير الاستراتيجيات الأمريكية في العـــراق

تغيير الاستراتيجيات الأمريكية في العـــراق: الاستجابة للواقع والنتائج المنتظرة
المتابع لتطور الأحداث في العراق منذ احتلاله في العام 2003م إلى اليوم؛ يلاحظ التخبُّط الشديد الذي عاشته إدارة الرئيس بوش، والحيرة في طريقة وأسلوب التعامل مع المعضلة العراقية والمقاومة التي نسفت الطموح الأمريكي بتغيير خرائط المنطقة بالقوة العسكرية الهائلة.
الخطأ الأمريكي الأساسي يعود إلى اقتصار الحسابات الأمريكية على القوّة العسكرية وإهمال التخطيط اللازم للأمور الأخرى كافة؛ فمنذ احتلال العراق والولايات المتّحدة تتخبّط في طرح السيناريوهات والمشاريع على أمل أن تساعدها على الخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه؛ فتارةً يأتي الحديث عن زيادة القوات العسكرية بوصف ذلك حلاً، وطوراً عن الانسحاب الـمُجَدْوَل، وبين هذا وذاك يعيش العراق حالة فوضى عارمة، وتواجه المقاومة العراقية القوات الأمريكية في أكبر عملية استنزاف للولايات المتّحدة منذ حرب فيتنام مع فارق أن المقاومة العراقية تقف منفردة معتمدة على قدراتها الذاتية مقارنة بفيتنام التي كانت تحارب بدعم الدول الكبرى المناوئة للولايات المتّحدة (الاتحاد السوفييتي الهالك).
وعليه؛ فقد تنوعت وتعددت وتشعبت الخطط والاستراتيجيات الموضوعة التي قدمتها جهات رسمية في الكونغرس أو البيت الأبيض أو وزارة الدفاع، أو غير الرسمية الصادرة عن مراكز الأبحاث والتخطيط والدراسات، كما تنوعت من حيث الهدف فيما يتعلق بالبقاء لعشرات السنوات في العراق مع زيادة في عدد القوات أو الانسحاب منه فوراً أو جَدْوَلَة الانسحاب مع تمركز ما يكفي من القوات في داخله لتأمين المصالح الاستراتيجية الأمريكية. ولذلك فقد كان من الخطط ما هو تكتيكي يتعامل مع الأحداث الآنية السريعة، ومنها ما هو استراتيجي يبني الرؤية بعيدة المدى، ونُصْبَ عينها أمر واحد وهو العراق.
أهم هذه التقارير على الإطلاق تقرير لجنة بيكر -هاملتون، ويقع في 160 صفحة، وقد صدر في 6 ديسمبر / كانون الأول من عام 2006م، ويشكل نقطة تحول في الاستراتيجية الأمريكية الكليّة، ويتميز عن غيره بأنه يطرح ضرورة الانسحاب، والتعاون، والانفتاح على سورية، وإيران التي تملك مفاتيح للمساعدة على تثبيت الوضع في العراق (طبعاً تثبيت ما أفرزه الاحتلال الأمريكي).
ويعدُّ قرار الرئيس الأمريكي جورج بوش زيادةَ عدد القوات الأمريكية لاحقاً (زيادة 30 ألف جندي) أحدَ أهم التكتيكات اللاحقة التي تمّ استخدامها لتنفيذ توصيات التقرير أعلاه، على الرغم من أنّ المراقبين والمحللين اعتقدوا أنّها تصبُّ في الاتجاه المعاكس، إلى جانب المحادثات الأمريكية مع إيران التي أفضت إلى اتفاق ضمني على ضرورة قمع المقاومة العراقية «السنيّة» واقتسام المغانم العراقية مع بعض الضوابط التي تنظم علاقة بعضهم تجاه بعض.
هل الانسحاب ممكن؟
لكن مأزق الانسحاب لا يقلّ سوءاً عن مأزق احتلال العراق؛ فالعراق ليس فيتنام، والشرق الأوسط ليس كشرق آسيا. الانسحاب الأمريكي من فيتنام كان كفيلاً بإنهاء المأساة وحل كل المشاكل العالقة، لكنّ الأمور لا تُحَلّ بهذه الطريقة في الشرق الأوسط؛ إذ لا يمكن الهروب من المشكلة عبر الخروج منها فقط.
الانسحاب في الوضع العراقي والشرق أوسطي له مفاهيم عديدة، وتنتج عنه مفاعيل مختلفة أيضاً تبعاً لوضعه. وعلى الرغم من أنّ الجميع يطالب بخروج أمريكا من العراق، إلاّ أن أحداً منهم لا يريد أن يكون هذا الخروج على شكل هروب سريـع وهـرولة؛ لأن مـن شـأن هذا الخيار أن يفتح صراعاً لا حدود له في العراق وخارج العراق ويدمّر المنطقة بالكامل.
على مستوى الداخل؛ هناك من يستعدُّ، من ميليشيات الحكومة وجماعة حزب الدعوة وميليشيا الصدر، للاستيلاء على مقدّرات الدولة بشكل كامل إذا ما قامت أمريكا بانسحاب سريع ومفاجئ، وقد لا يؤدي ذلك إلى تطاحن هذه الجماعات بعضها مع بعض فقط، وإنما إلى قيامها بشنِّ حملة تطهير وقمع طائفية ضدّ أهل السنّة بشكل أوسع بكثير مما هو حاصل الآن؛ خاصة في المناطق المشتركة فيما يسمى مشروع إقليم (العراق الأوسط والجنوبي) الذي يسعى إلى تحقيقه عمّار الحكيم والجماعات الموالية لإيران في العراق.
هل يمكن إعلان استقلال الأكراد في الشمال؟
قد يسعى الأكراد أيضاً؛ ولضمان عدم انتقال أعمال العنف إلى مناطقهم في الشمال، إلى إعلان استقلال شمال العراق بوصفه دولةً كردية مستقلة، وإغلاق الممرات والمناطق المؤدية إليهم ريثما يستتبُّ الوضع.
هذا السيناريو المخيف وإن كان تشاؤمياً إلاّ أنه يبقى احتمالاً كبيراً قد ينجم عن أي انسحاب أمريكي سريع من العراق. لا أحد في داخل العراق أو في خارجه تبنّى هذا المفهوم أو دعا إليه باستثناء وجود مصلحة لإيران وبعض الجهات التابعة لها التي تعدّ أن الخروج السريع للأمريكيين سيخلق فراغاً لن يكون لأحد القدرة على ملئه باستثنائها، ولذلك فهي المستفيد الأول من هذه الخطوة في هذه الظروف.
وقد عبَّرت إيران عن هذا التوجه من خلال العديد من التصريحات لرئيس الجمهورية أحمدي نجاد، منها ما قاله بتاريخ 27/11/2006م أمام حشد من «الحرس الثوري» من أنّ «الأمّة الإيرانية باستطاعتها تخليص أمريكا من المستنقع العراقي بشرط الانسحاب، وعندها فإن أمم المنطقة بقيادة الأمة الإيرانية مستعدة لإظهار طريق الخلاص». وما ذكره أيضاً بتاريخ 28/8/2007م عن استعداد إيران لملء الفراغ الذي سينتج عن انسحاب أمريكا من العراق.
على المستوى الإقليمي؛ فإنّ دول المنطقة لن تستطيع تحمُّل تبعات هذا السيناريو دون أن تتدخَّل لوضع حد له، خاصّة إذا ما علمنا إمكانية انتقال مفاعيل الوضع الداخلي العراقي في حينه إلى الدول المجاورة لا سيما دول الخليج العربي وتركيا.
غير أن تركيا لن تسمح أبداً بإعلان أكراد شمال العراق (إقليم كردستان) دولةً مستقلّة، إذ يعدُّ ذلك خطّاً أحمر بالنسبة للأمن القـومي التـركي لا يمـكن التـراجع عنه أو السكوت عليـه أو المساومة بشأنه. وبناء عليه؛ ستكون تركيا مستعدة لاجتياح شمال العراق إذا ما تطلّب الأمر ذلك لمنع قيام دولة كردستان المستقلة. هذه الخطوة معلومة في حسابات الجيش والنخبة القومية وحتى الإسلامية وإن كان هذا خياراً إلى الآن إلاّ أنّه سيصبح إجبارياً حال حصول هذا السيناريو.
في المقابل؛ لا يمكن لدول الخليج ولا سيما المملكة العربية السعودية أن تقف مكتوفة الأيدي حال حصول ذلك السيناريو، ليس لأن المملكة تدّعي تمثيل السنّة في العالم الإسلامي؛ فالمملكة تسعى لأن تلعب دوراً أكبر من المستوى الفئوي أو الطائفي، وهي لا تريد اتّباع الأسلوب الإيراني بدعم فئة دون أخرى، وهو الأمر الذي يتسبب بفتنة طائفية ومذهبية وبحرب أهلية تفتِّت العراق وتدمِّره، لكن لأن الواجب يفرض تدخّلها في ظل تقطيع الأوصال الذي سيحصل للعراق في حينه؛ فمن غير المعقول أن تبتلع إيران جزءاً من العراق بينما تضطر تركيا إلى احتلال الشمال الكردي ويبقى العالم العربي متفرجاً.
ولا شـكّ أنّ الـولايـات المتّـحـدة تـعـلـم هـذه المعطـيات، ولا شكّ أنها تعلم أيضاً أنّ العراق مهم جداً وهشٌّ أيضاً، ولذلك فليس من المفروض أن تتم مغادرته على عجلة. وانطلاقاً من هذه المعطيات فهي تحاول التركيز على انسحاب تدريجي إذا كان لا بد من الانسحاب في مراحل لاحقة. وهي تأمل نقل مهمة عدد كبير من الألوية المخصصة للقتال للقيام بمهمة تدريب القوات العراقية وبمهام استشارية تستطيع الولايات المتّحدة من خلالها تثبيت الوضع بما فيه الكفاية لتفادي كارثة كبيرة في العراق؛ عبر الالتزام ببقاء أطول، ولكن بمهمة أصغر.
الخيارات مفتوحة في ظل عدم الاستقرار:
وعلى الرغم من أنّ الوضع يبدو أنه يتجه إلى الاستقرار السياسي للطبقة العراقية الحاكمة خاصة بعد الاتفاق الأمريكي - الإيراني في العراق؛ لكن تبقى الخيارات مفتوحة في ظل عدم وضوح الـمُناخ الإقليمي والدولي وفي ظل تربُّص الإدارة الأمريكية بالعراق، ومنها:
1- تقـسيـم العراق عملياً: يعدّ هذا الإجراء أحد السـيناريـوهات الــتي من الممكن اللجوء إليها من قِبَل الولايات المتّـحـدة لإنهـاء الأزمـة العراقــية. ويشكّل قرار الكونغــرس الأمريكـي الذي صـدر مؤخـراً والذي تبنَّى مشروع المرشح الرئاسي الديـموقراطي السيناتور «بايدن» الداعي إلى تقسيم العراق إلى ثـلاث فيدراليات (كردية، وسنية، وشيعية) وذلك بموافـقة المجلس عليه بأغلبية الثلثين: 75 صوتاً مقابل 25 صوتاً معارضاً؛ يشكّل هذا القرار الأساس العمـلي لتطـبيق هذا الخيار رسمياً. ويمثّل الديمقراطيـون في الولايات المتّحدة عماد هذا الخيار؛ لأنّ تقسيـم العـراق يعدّ الحل الأسهل والأنسب لهم؛ خاصّة إذا ما كان الرئيس الأمريكي المقبل من الديمقراطيين، وبذلك يكون قد تخلّص من عبء كبير كان عليه أن يواجهه لو بقيت الأوضاع على حالها من استنزاف للجيش الأمريكي وللاقتصاد الأمريكي وللهيبة الأمريكية.
2- الانسحاب المبرمج والتمركز على تخوم العراق: ويُعدّ وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس أحد المنظّرين في هذا المجال إلى جانب عدد لا بأس به من جنرالات الجيش الأمريكي. وتقوم الفكرة على الإعداد لمرحلة جديدة تتطلب الانسحاب من العراق والتمركز على حدود الخليج بقوّة هائلة تتيح للولايات المتّحدة استرجاع قدرتها الردعية التي فقدتها عندما غرقت في وحل العراق نتيجة للقدرات التي أبدتها المقاومة العراقية، ومن ثم استرجاع قوّة التأثير والردع من خلال التـهديد بالقـوة وليـس مـن خـلال استـعـمالها، وهو ما سيساعد الولايات المتّحدة على التفرّغ لمواضيع وملفات مهمة كالملف النووي الإيراني.
3 - المساعدة على انقلاب عسكري: ويُعدّ هذا الخيار أحد أهم الخيارات التي يتم الحديث عنها خلف الكواليس. لقد كانت الخطّة الأمريكية تقتضي التأسيس لحكومة موالية لها بعد الإطاحة بنظام صدّام حسين، تعمل على نشر الأمن والاستقرار، ومن ثَم تكون حليفاً لها وتسوّق لإنجازاتها في العراق، ويمكن الاعتماد عليها في بـقاء القوات الأمريـكية أو جزء كبير منها على الأقل. وفي حال بقاء هذه الحكومة تعاني من أمراض سياسية كثيرة، وفي حال شعور أمريكا أنّها ستميل إلى إيران بالمطلق وأنها غير مسيطرة على الوضع العراقي، ولا يمكن الاعتماد عليها في نشر الأمن والاستقرار ،وتعاني من أزمة فساد ضخمة وتورطت في عمليات دعم الميليشيات؛ فلن تتردد أمريكا عندها في تدبير حصول انقلاب يأتي برئيس وحكومة قوية ويفرض الأمن والاستقرار بالقوّة؛ خلاصاً لها من هذا المستنقع وخياراً محتملاً وغير مكلف قياساً بالخسائر الاقتصادية والعسكرية التي تعاني منها أمريكا في العراق، وإن كان ذلك يقوّض من مصداقيتها عن ترويجها للديمقراطية.
4- محاولة إيجاد توازن في التركيبة السياسية العراقية: تدرك الولايات المتّحدة الآن بعد الغرق في المستنقع العراقي أنها ارتكبت عدداً من الأخطاء القاتلة كان من بينها الاعتماد حصرياً على الشيعة والأكراد وقمع السنّة العرب وإهمالهم، ومن أخطائها أيضاً حل الجيش العراقي ومؤسسات الدولة العراقية بالإضافة إلى قانون اجتثاث البعثيين. كل هذه القرارات أدّت إلى خلق عدم توازن، وإلى ضعف تمثيل، وإلى صراع داخلي عراقي - عراقي في ظل غياب للدولة ومؤسساتها، كما أدّت إلى تقوية الاتجاه الإيراني الموجود في العراق والذي تربطه صلات قوية بالممثلين الشيعة في الحكومة والبرلمان وعلى أرض الواقع في العراق.
وعليه؛ ولتفادي هذا الوضع تحاول الإدارة الأمريكية الآن استمالة أطياف عديدة من السنّة لدفعها للاشتراك في التمثيل السياسي العراقي بشكل أكبر وأضخم وأكثر فاعلية، على أمل أن يؤدِّي ذلك إلى تحقيق نوع من الاستقرار والتوازن السياسي، وأيضاً يعمل على امتصاص نقمة السنّة وعزل المقاومة العراقية. وقد بدأت الولايات المتّحدة أيضاً في الإطار نفسه التخفيف من القيود على البعثيين ممن تعدّهم معتدلين وذلك لتحقيق هدفها.


الكاتب :- علي حسين باكير
المصدر :-
مجلة البيان/ عدد شهر ربيع الأول 1429هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق