الاثنين، 13 يونيو 2011

الحرب الاقتصادية ومستقبل السلام

لقد اجتاحت سماء الدنيا موجة جديدة من الصخب والضجيج ، نتيجة الأزمة المالية (الاقتصادية) التي انطلقت من (وول ستريت)، وامتدت حتى وصلت إلى أقاصي الأرض، فهل تشكّلت هذه الأزمة بصورة مباغتة، أم كانت متوقعة وتشكّلت عبر تراكمات زمنية متطاولة وعرف بها خبراء الاقتصاد في العالم؟

 وهل ظهرت تلك الأزمة بسبب عدم التوازنات وغياب الرقابة في الاقتصاد الأمريكي، أم كانت ثمرة حرب اقتصادية منظّمة كان للأصدقاء المتنافسين في وسط صراعات الأقطاب الكبرى في العالم (الدول الثمانية الأوفر ثراء)؟

 وما هي الاتجاهات التي ستأخذها الإدارة الأمريكية الجديدة التي أفرزتها انتخابات يوم 4 تشرين الثاني نوفمبر 2008م؟ وهل هناك ثمة تشابه بين الانهيار الأمريكي وبين تفكك الاتحاد السوفيتي (السابق) في العام 1991م؟ والأهم من ذلك: ما هي انعكاسات هذا الحدث الكبير على مستقبل السلام في العالم؟
1 حروب الاستنزاف الشامل


أعلنت الدول الصناعية السبع يوم 12 تشرين الأول أكتوبر 2008م، موافقتها على الخطة التي اقترحها رئيس الوزراء البريطاني (غوردون براون)، والتي تضمنت قيام بريطانيا بضخ (250) مليار جنيه لضمان المبادلات من المصارف. وكانت الإدارة الأمريكية قد حصلت على موافقة الكونجرس على ضخ (700) مليار دولار للحد من أخطار الأزمة داخل أمريكا وفي كل بلاد العالم، وأعلن البنك الدولي نتيجة لذلك، استعداده لمساعدة الدول المتضررة من ذلك بسرعة، ووضع مبالغ كبيرة تحت تصرفها. وصدرت صحيفة (واشنطن بوست) في ذلك حاملة على صفحاتها تحليلات واحتمالات تطور الأزمة، ومنها مقالة تحت عنوان: (الحرب المقبلة قد تكون حرباً مالية عالمية). ومما تضمنته المقالة: "إن التحركات الأمريكية والأوروبية الراهنة لإنقاذ المصارف لا تشير إلى الركود الذي هو أكثر إيلاماً فحسب، بل إن هدفها هو إظهار الحاجة والضرورة لتضافر الجهود الدولية، بغية تجنُّب ما هو أسوأ، والذي يتمثل بحرب مالية عالمية شاملة". وما جاء في هذه المقالة يمثّل حقيقة في جملة الحقائق ذات العلاقة بالأزمة المالية، غير أن هذه الأزمة قد تشكَّلت عبر عقود من الزمن وتفاقمت تفاعلاتها بعد انتهاء عصر الحرب الباردة، وأخذت كل أبعادها خلال الحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق.
 
2 العهد الجديد وإعادة التنظيم


فأمريكا إذن تعيش مع نهاية العام 2008م مرحلة الاستنزاف المادي (المالي والاقتصادي)، والمعنوي (عبر حرب إعلامية دولية) هدفها فرض عزلة على أمريكا، ووضع حدود لتحركاتها الدولية. ونموذج هذه الحقيقة هو ما صرَّح به الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش) يوم 11 حزيران يونيو 2008م لصحيفة (التايمز) بقوله: "إنني أتمنى لو يعود الزمن إلى الوراء، لاستخدم نبرة مختلفة، وخططاً مختلفة فيما يخص الحرب على العراق. وأنا سأترك لمن سيأتي بعدي موروثاً من الدبلوماسية الدولية لمعالجة القضايا العالقة، وعلى رأسها إيران، وأنا أختم ثمان سنوات من الحكم كُتِبَت حروبها بالدم من العراق إلى أفغانستان مروراً بلبنان والأراضي الفلسطينية".
وكانت الحملات الانتخابية بين المرشحين للرئاسة الأمريكية (الجمهوري ماكين، والديمقراطي أوباما)، تبرز بوضوح الاتجاه العام لإعادة التنظيم الشامل في الحكم والإدارة، وقد عبَّر الرئيس (أوباما) عن هذا الاتجاه بقوله يوم 23 تشرين الأول أكتوبر 2008م ما يلي: "إن أي شخص يحل محل (جورج بوش) سيواجه تبعات سياساته السيئة التي فجّرت حربين لم يتم حسمهما، واقتصاد أمريكي يشهد تراجعاً مستمراً". وبالتالي فهناك إجماع أوروبي وروسي بحتمية إجراء تغيير شامل في السياسات الأمريكية، وتلتقي هذه الإرادة الدولية مع طموح الإدارة الأمريكية الجديدة لإخراج الولايات المتحدة من أزماتها واستعادة أمريكا لموقعها العالمي. وفي الواقع فقد عملت إدارة الرئيس الأمريكي السابق على بذل كل جهد مستطاع لإجراء إصلاحات من شأنها استعادة الثقة العالمية والأمريكية التي دمّرتها سياسات الحروب عبر جهد إعلامي، بتنظيم وتخصيص قنوات إذاعية، وتلفزة، ونشرات بهدف تحسين صورة أمريكا.


غير أن كل الجهود المبذولة لم تحقق أية نتيجة، لأن الأعمال والممارسات المنحرفة أو الشاذة على مسارح الأعمال القتالية بخاصة كانت كافية لتدمير خداع التناقضات بين الأقوال في أجهزة الإعلام والممارسات في مجالات الحرب والسياسة والعلاقات الدولية. وقد يكون من المناسب التوقُّف عند بعض الشواهد التي تظهر أنه لابد من أن تشمل عمليات إعادة التنظيم الأمريكي الشامل إزالة التناقضات بين الأقوال والأعمال، وتحديد مواعيد التعامل مع شعوب الأرض لتكون عادلة ومتوازنة، ومعالجة كل الثغرات التي أظهرتها تجارب الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الثماني الماضية، والتي مارس قيادة العالم خلالها الرئيس (جورج بوش)، والعاملون معه، ومن ذلك:

أولاً: إذا كانت إعادة التنظيم الشامل هي محور كل جهد للإدارة الجديدة، فلا بد من أن تتم هذه العملية بتعاون دولي بدأت بواكيره في التشكّل خلال العهد السابق، ومن خلال الأزمة المالية الاقتصادية، وبحيث لا تكون الديون الخارجية على حساب شعوب العالم وبخاصة الفقيرة منها والتي تتزايد فقراً مع السياسات المالية (الاقتصادية)، مما يجعل من الصعب معالجتها في أزمنة محددة، هذا علاوة على أن (الأصدقاء الألدّاء) يقفون بالمرصاد لاغتنام كل فرصة لإدانة الدور الأمريكي العالمي حتى لو كان بريئاً مما ينسب إليه.

ثانياً: لاريب أن التجارب الحديثة للعلاقات الأمريكية العربية قد أقنعت الأمريكيين بحتمية ما يجب أن تكون عليه تلك العلاقات، فالدعم الأمريكي لإسرائيل على حساب العرب، والسماح لإسرائيل بممارسة سياساتها المضادة للسلام، والتدخّل في الشؤون الداخلية للأنظمة العربية المعتدلة، وإثارة التناقضات في وسط جماهير الأقطار العربية والإسلامية (كمثل ما يحدث على جبهة العراق، ولبنان، وفلسطين، وحتى أفغانستان) بالسير على النهج البريطاني المعروف (فرّق تسد). وكذلك التعامل مع قادة العرب، وحتى شعوبهم، بنوع من الاستكبار والاستعلاء ... وغير ذلك من العوامل، هي التي حرمت أمريكا من الرصيد الذي كانت تملكه في الوطن العربي والجماهير العربية والقيادات العربية قبل كل شيء.

 والأمثلة معروفة وكثيرة ومتنوعة، منها على سبيل المثال استخدام ورقة (حرية المرأة)، وورقة (الحريات العامة) لممارسة الضغوط على المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، ودول مجلس التعاون الخليجي ... وغيرها. وقد حملت هذه الأساليب (الدول العربية المعتدلة) على إصدار بيانات قوية أدانت فيها سياسات التدخل الأمريكية في شؤون داخلية تعتبر من الخصوصيات المقدسة وسط جماهير الشعب العربي.
وما من حاجة للقول إن مثل هذه الممارسات المنحرفة لابد لها من أن تنال من الثقة بالتحالف مع أمريكا، لأنها تتناقض مع ما يجب أن تكون عليه العلاقات مع (الحلفاء والأصدقاء)، ومثل ذلك أيضاً علاقتها مع بقية الشعوب، لذا كان لابد من إعادة تنظيم شامل لهذه العلاقات، لتتمكن من بلوغ أهدافها. ويمكن هنا الإشارة إلى تصريح صدر عن الخارجية الإيرانية يوم 25 آب أغسطس 2008م، جاء فيه: "طالبت دول مجلس التعاون الخليجي بتوسيع نطاق التعاون والتشاور والتنسيق مع إيران في مختلف المجالات، من أجل تعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة"؛ ويمكن قراءة هذا التصريح قراءات مختلفة، ولكن من المؤكد أن التصريح الإيراني يعتبر دليلاً على ضياع الثقة بالسياسات الأمريكية التي قد تعقد صفقات على حساب أقاليم الوطن العربي منفردة ومجتمعة وكان جديراً بصانعي القرار الأمريكي أن يتعلموا من التجارب الروسية التي لم تتغير رغم كل المفارقات، وبقيت محتفظة بمبدأ حماية حلفائها والدفاع عنهم بكل الوسائل وفي كل المجالات، ونموذج ذلك علاقاتها مع طهران ودمشق.

ثالثاً: لا تستطيع الإدارة الأمريكية الجديدة مهما توافر لها من المرونة أن تتجاهل قوة الضغوط الأوروبية الآسيوية، والهادفة إلى توسيع هامش تحركاتها الدولية، ذلك لأن مثل هذا التجاهل هو الذي يعيد للحلبة الدولية خيول المنافسات بين الأقطاب، وهو ما من شأنه إعداد العالم لحرب أو حروب لا يمكن معرفة نتائجها، ومن نماذجها الحربان العالميتان الأولى والثانية، ومقابل ذلك فمن المعروف أن السلام الذي تحقق لأوروبا كانت قاعدته الأساسية هي بفضل جهود السياسات الأمريكية لمنع المنافسات، وإخضاع تحركاتها لمبادئ ثابتة وواضحة.

 و يعرف عالم اليوم عودة المنافسات وبخاصة منها الاقتصادية لتشكّل اضطراباً في موازين العلاقات الدولية، ومن نماذج ذلك (أزمة دارفور والعلاقات مع الدول الإفريقية). وقد عبّرت دول كثيرة عن مخاوفها من بروز هذه الظاهرة، ومثال ذلك (ما صدر عن الاتحاد الأوروبي يوم 15 تشرين الأول أكتوبر 2008)، حيث أعلنت المفوضية الأوروبية ما يلي: "يجب على الاتحاد الأوروبي والصين التخلّي عن منافساتيهما في أفريقيا، والعمل معاً لتطوير بنية أساسية، وضمان الموارد الطبيعية بشكل جيد، ويتحتم على أفريقيا، والصين، والاتحاد الأوروبي العمل معاً بطريقة مرنة وعملية للتعرُّف على المجالات المناسبة للتعاون الثلاثي والتعامل معها".

وأصبحت الصين بذلك رابع دولة في الاستثمارات الخارجية، ووقّعت عقوداً مع دول أفريقية بقيمة تسعة مليارات من الدولارات، وهناك (12) دولة أفريقية لديها مشاريع استثمارية تصل عقودها إلى تريليون دولار. إذن فإن فرنسا وأوروبا التي كانت تعتبر أفريقيا وطناً استثمارياً وامتيازاً خاصاً بها تستطيع أن تقول للصين كفى، وأنه لابد لنا من التعاون معاَ (لضمان السلام والأمن).

رابعاً: ما من ريب أنه لابد للإدارة الأمريكية إذا أرادت حقاً إعادة تنظيم شامل لمصلحتها ومصالح العالم من أن تتابع جهودها، بل وأن تبذل جهوداً إضافية للحد من ظاهرة الفقر والمجاعة والافتقار إلى مخططات ومشاريع إنماء متوازن على صعيد الكرة الأرضية.

 ولقد مضت سنوات وعقود مجموعة الدول الصناعية الكبرى، أو مجموعة (7 + 1)، ولما تتمكن هذه المجموعة من تقديم مشروع حقيقي يعيد التوازن المفقود (بين الشمال الغني والجنوب الفقير)، أو تقديم دعم حقيقي للدول الأكثر فقراً، حتى إذا ما جاءت الأزمة المالية في نهاية حكم الرئيس (جورج بوش) تفجّرت كل الثغرات والعيوب والانحرافات في النظام المالي العالمي الحالي، وأولها تشكُّل طبقة كبيرة من الفقراء ينتشر منها مليار إنسان في القارة الآسيوية وحدها. ويمكن اعتبار أن كل جهد تبذله الإدارة الأمريكية الجديدة لإعادة توزيع الثروة على مستوى العالم لبناء النظام العالمي الجديد على قاعدة العدالة، هو الذي سيعطي الثمار الأفضل مما تعطيه الديمقراطية والحريات.
3 طبول الحرب ورايات السلام


اقترنت سياسات الحروب بالعامل الاقتصادي منذ أيام القبيلة المسلحة وحتى اليوم، وسيستمر هذا الاقتران في آفاق المستقبل أيضاً، ولهذا لم يكن مباغتاً أن يهيمن الخوف في أرجاء الدنيا من الأزمة الاقتصادية المالية الراهنة، لاسيما وأن فضاء الدنيا لم يعد كما كان عليه منذ نهاية عصر الحرب الباردة وإلى منتصف العام 2006م، بحيث إن من يسمع أصداء قرع طبول الحرب يتوقع أنها ستنفجر غداً أو بعد غد، غير أن من يتابع شريط الأحداث خلال الفترة ذاتها من سنوات ما بعد عصر الحرب الباردة يظن أن الحرب لن تقع أبداً، وهنا لابد من تذكّر أبيات من الشعر العربي قالها والي (خراسان) في نهاية العصر الأموي (نصر بن سيار)، وتضمّنت تحذيراً لبني أمية في دمشق، إذ جاء فيها:

أرى قليل الرماد وميض نار

ويخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكو
وإن الحرب أولها الكلام


ولكن، وفي القرن الحادي والعشرين، أصبح هناك تباعد كامل وانفصال تام بين ضجيج الإعلام وقرع طبول الحرب، وبين السير الحقيقي نحو الحرب. ويضيق المجال عن عرض تبادل الاتهامات والشتائم بين أقطاب العالم بلغة تتناسب مع تطوّر اللغة الدبلوماسية التي تجاوزها الزمن (منذ العهد الأموي حتى العهد الأمريكي الروسي)؛ إذ كانت تقاليد الحرب (أيام فروسية الحروب القديمة وحتى الحرب العالمية الثانية) الاكتفاء بالإعلام عن حالة الحرب، أو الاكتفاء بسحب السفراء، أما اليوم فأصبحت الشتائم واللغة المنحطة والتهديدات بالحرب هي سلاح لا علاقة له بالحرب أو حتى احتمالات وقوعها، من ذلك على سبيل المثال: أنه في يوم 24 شباط فبراير 2008م، صرَّح نائب وزيرة الخارجية الأمريكية (نيكولاس بيرنز) تعليقاً على موقف موسكو من أزمة (كوسوفو) بما يلي: "إن السياسة الروسية تجاه قضية كوسوفو هي سياسة وقحة"، وردَّت موسكو على هذا القول ببيان جاء فيه: "لقد وصف (بيرنز) سياستنا بأنها وقحة، بدون أن يكلِّف نفسه عناء التفكير بأن سياسة الولايات المتحدة بالذات هي الوقحة"، وفي يوم 20 أيلول سبتمبر 2008م عُقد اجتماع مغلق للجنة الهيئة العامة للأمم المتحدة التي تضع جدول الأعمال، وفي هذا الاجتماع وقع صدام بين المندوبيْن الأمريكي والروسي بشأن حرب روسيا في جورجيا، وتعالى الصياح والشتائم وكاد الاشتباك يصل إلى حد التماسك بالأيدي، مما استدعى طلب شرطة الحماية في الأمم المتحدة.

ويصبح من طبيعة الأمور ومن المتوقع أن يتدهور (الخطاب السياسي) لدى الأطراف التابعة للأقطاب الأخرى أن تسير على النهج ذاته في تطوير حروبها الكلامية والإعلامية؛ ففي يوم 9 تموز يوليو 2008م، أطلقت إيران في إطار استعداداتها للحرب تسعة صواريخ خلال مناورات برية بحرية، وأعلنت أن أحد هذه الصواريخ (شهاب 3) يبلغ وزنه طناً، ومداه ألفي كيلومتر، بحيث يمكن له ضرب أي هدف في إسرائيل. وكانت إيران قد هدَّدت في مناسبات عديدة بمحو وإزالة إسرائيل من الوجود، فهدد الوزير الإسرائيلي (بنيامين بن أليعازر) يوم 7 حزيران يونيو 2008م: "بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، وحذفها من الوجود، وأن المجتمع الدولي لا يفعل شيئاً سوى الكلام في مواجهة إيران التي لا تفهم سوى لغة القوة". ويعرف قادة إسرائيل ما يعرفه حكام طهران من أن أي من الطرفين الإيراني والإسرائيلي أكثر عجزاً من إزالة أحدهما للآخر، أو حتى تحقيق نصر حاسم.

وأما فيما يتعلق بالاستعداد للحرب، فيمكن التوقُّف قليلاً عند ملامح من (سباق التسلّح) في اتجاهاته الحديثة، ومن ذلك ما أعلنته موسكو يوم 27 حزيران يونيو 2008م والذي نص على ما يلي: "أطلقت روسيا قمراً اصطناعياً عسكرياً من قاعدة (بايانور) في كازاخستان، وتم إطلاق القمر (كوسموس) بنجاح باستخدام صاروخ من نوع (بروتون كاي)، وحضر التجربة قائد القوات الفضائي". وبعد ذلك، وفي يوم 18 أيلول سبتمبر 2008م صدر تصريح عن وزارة الدفاع الروسية، جاء فيه: "أطلقت إحدى الغواصات الروسية صاروخاً عابراً للقارات (مولان) يبلغ مداه عشرة آلاف كيلومتر، ويمكن له حمل ستة رؤوس حربية، وأصاب الصاروخ هدفه في (كواني) في (شبه جزيرة كامتشاتكا) أقصى شرق روسيا، وكانت التجربة ناجحة". وفي يوم 29 أيلول سبتمبر 2008م كان الرئيس الروسي (ديمتري ميدفيديف) على موعد للاجتماع بقادة المناطق العسكرية الروسية، حيث تحدث لهم بالقول: "لقد بدأنا تحرّكنا لتزويد القوات المسلحة الروسية باستخدام تقانة جديدة أعدها المهندسون الروس في مجال التسليح، وإنني أطلب بإنشاء منظومة للدفاع الجوي الفضائي قادرة على حماية روسيا من الهجمات الإرهابية أو الصاروخية، ولن تمتد هذه المنظومة إلى بلاد أخرى، إذ لا تحتاج روسيا لمنظومة دفاعية كاملة تغطي جميع أراضيها، بل تريد الاكتفاء بمنظومة تحمي المدن الكبرى والمناطق الصناعية الرئيسة، ومواقع الصواريخ الاستراتيجية ذات الرؤوس النووية".
وقد أعلنت (موسكو) يوم 25 تشرين الأول أكتوبر 2008م، أنها بصدد إعادة تنظيم شامل، والتركيز على القوات الجوية، بحيث يتم توحيد شبكتي الدفاع الجوي في روسيا و (بيلاروسيا) في شبكة واحدة تضم (5) وحدات جوية، و (10) وحدات من قوات الدفاع الجوي الصاروخي، و (5) وحدات من قوات الرادار، وستتسلم القوات الجوية الروسية في العام 2009م مروحيات من طراز (كا 2)، كما سيبدأ إنتاج (كا 52) في تشرين الأول أكتوبر 2008م، واعتبرت مروحية (التمساح) الهجومية ومتعددة المهام هي المروحية المطوّرة عن (كا 52)، والمعروفة باسم (القرش الأسود)، إلاّ أنها صُمِّمت للعمل بعيداً عن قاعدة الإطلاق دون الحاحة للصيانة والمعاونة الأرضية، وتعمل مؤسسة البحث والصناعة التابعة لوزارة الدفاع الروسية على إنشاء منظومة استطلاعية عسكرية جديدة تتصل بشبكة الإنترنت، وتعمل بمهمة الاستطلاع الفضائي والجوي والأرضي لرصد عدد من الأهداف المطلوبة.

والمهم أن موضوع التسلّح والإعداد للحرب أصبح في الأزمنة الحديثة يرتدي أثواباً خادعة وألواناً مضللة، إذ إن الأطراف الكبرى لا تعلن عن أسلحتها الدفينة، وعندما يتم الإعلان عن الاستعدادات للحرب عادة ما يقترن الإعلان بالتأكيد أنه من أجل السلام.
وإذا كانت هذه بعض ملامح إعداد روسيا للحرب، فماذا فعلت أمريكا؟ لقد أعلن وزير الدفاع الأمريكي (روبرت جيتس) يوم 10 حزيران يونيو 2008م ما يجب عمله لتطوير القدرات القتالية الأمريكية وبصورة خاصة سلاح الجو، وكان مما صرَّح به: "تحتاج القوات الجوية الأمريكية للدعم، وسيتم منحها (20) مليار دولار في موازنة العام القادم، وسيتم تعزيز الترسانة النووية الأمريكية في السنوات المقبلة لمواجهة تعزيز روسيا لقدراتها النووية، حيث سيركّزون جهدهم لتطوير قدراتهم، وعلينا المحافظة على ردع نووي قدر المستطاع".

 وفي 4 تشرين الأول أكتوبر 2008م، أُعلن في واشنطن أنه أثناء الكشف الدوري للطائرات العاملة في أفغانستان والعراق، تبيّن أنها مستنزفة، وتقدر إيقاف (127) طائرة من نموذج (أ 10 ثندربولت أي آي س)، ويضم سلاح الجو الأمريكي (400) طائرة من هذا النوع تقوم بمهام الدعم الجوي للقوات البرية عن كثب، واقتناص الدبابات. وفي يوم 26 تشرين الأول أكتوبر 2008م، أعلن في واشنطن ما يلي: "إن القوة النووية الأمريكية تتقادم وتتآكل، ولابد من العمل بهدف المحافظة على قدرة الردع النووية، لاسيما بعد فشل كل الجهود الدولية في إيقاف انتشار أسلحة التدمير الشامل".

ومن المعروف بعد ذلك أن المناورات العسكرية هي تجارب حرب، أو اختبار لسيناريوهات حربية، تتطابق مع احتمالات الحرب، وقد أصبحت هذه المناورات رتيبة ومتلاحقة بين أطراف الحرب (روسيا، وإيران، وفنزويلا) من جهة، و (أوروبا، والولايات المتحدة، والخليج العربي) من جهة ثانية، وكل ذلك من أجل السلام. ونموذج ذلك هو ما أعلنته موسكو يوم 19 أيلول سبتمبر 2008م من أنها أنهت مناوراتها في (فنزويلا)، فيما صرَّح نائب وزير الخارجية الروسي (ألكسندر باكوفينكو) أن روسيا تستبعد احتمال حرب باردة جديدة مع الولايات المتحدة. وفي يوم 23 أيلول سبتمبر 2008 كان هناك أسطول روسي يتجه إلى البحر الكاريبي، لدعم الاستقرار في أمريكا الجنوبية، والمشاركة في المناورات.
4 الردع النووي والحروب بالوكالة


منذ سنوات كان وزير الخارجية السعودي (سمو الأمير سعود الفيصل) بعد مباحثات مع كبار المسؤولين الأمريكيين، وقد ضاق صدره بما هو عليه وضع العمل السياسي الدبلوماسي، من حيث الشفافية والوضح، ووجود التناقضات بين الأقوال والأعمال، وبين خلط الأوراق الصحيحة والخداعية، الحقيقية والتضليلية، وعبَّر عن ضيقه بالقول: "إن ما يعيشه عالم اليوم يجعل الحليم حائراً، والعاقل مجنوناً". ويعرف كل إنسان في العالم ما أصبح عليه العالم من تدهور وصل إلى حافة الحرب العالمية الجديدة عندما اكتشفت أمريكا وجود قواعد صاروخية في كوبا في العام 1964م، ولذلك كان متوقعاً أن تستقبل أمريكا بغضب كبير ممارسات روسيا عندما أرسلت أساطيلها البحرية للقيام بمناورات مع (فنزويلا) في البحر الكاريبي خلال الفترة من (19 24 أيلول سبتمبر 2008م)، وقد عبَّرت عنه (كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بالقول: "من الضروري التشدّد مع روسيا، وعلى الغرب أوروبا أن يتصدَّى للبلطجة الروسية، وقد اتخذ سلوك موسكو في الشهر الماضي منعطفاً جعل مكانتها الدولية أسوأ مما كانت عليه في العام 1991م، عندما خرجت من سقوط الاتحاد السوفيتي، وأن أرسال قاذفات روسية إلى (فنزويلا) يعرِّض للخطر مشاركتها في عدد من المؤسسات الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية في العالم، ومن بينها مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى".

ووسط هذه التحديات، أعلن في طهران يوم 19 أيلول سبتمبر 2008م بأن إيران أجرت اختباراً لمنظومة متطورة لاستكشاف طائرات العدو. وكانت طهران قد أعلنت يوم 5 تموز يوليو 2008م ما يلي: "لا مانع لدينا من عرض ما أعددنا لمواجهة أي هجوم، وأن أسلوب الحرب الخاطفة الذي ستنفذه وحدات الحرس الثوري لن يترك للعدو أية فرصة للفرار". وقد صرَّح رئيس هيئة الأركان الإيراني الجنرال (حسن فيروز) بأن على كل الدول أن تعرف أنه في حال تجاهل مصالح إيران، فإنه من الطبيعي ألاّ تسمح للآخرين باستخدام مضيق هرمز. وكانت الولايات المتحدة قد ردَّت على تهديدات مماثلة أطلقتها طهران في عدد من المناسبات بالقول: "إننا لن نسمح لإيران بالتأكيد بإغلاق مضيق هرمز الذي يمر عبره أربعين بالمئة من النفط العالمي". ولقد تم تبادل مثل هذه التهديدات عندما كانت إيران وأساطيل حلف الناتو تقوم بمناورات في منطقة الخليج يوم 8 تموز يوليو 2008م، وآنذك أعلنت أمريكا أن هدف المناورات هو: "حماية اقتصاد العالم"، وردَّت طهران على ذلك بالقول: "إن طهران مستعدة لإحراق (تل أبيب) والأسطول الأمريكي في مياه الخليج".

وبعد شهرين تقريباً من وصول التوتّر في العلاقات الأمريكية الإيرانية ذروته في القوة والشدة، صرَّح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (باب دي هوب شيفر) يوم 6 تشرين الأول أكتوبر 2008م بما يلي: "إن منع إيران من مواصلة السعي للحصول على القنبلة النووية يمثِّل تحدّياً كبيراً، وإن صواريخ إيران تهدد الأمن الأمريكي والأوروبي". وفي اليوم ذاته، كان وزير الخارجية الإيراني (منوشهر متقي) يصرِّح بما يلي: "إنني أستبعد قيام الولايات المتحدة أو إسرائيل بشن ضربة عسكرية على إيران".

ولعل ما هو أخطر من ذلك، هو قيام الأطرف ذات العلاقة بالصراعات الدولية بممارسة لعبة الدول الكبرى في اعتماد أساليب (الخداع والتضليل والبلطجة)، والتي كان أوّل من أطلقها رئيس وزراء بريطانيا أيام الحرب العالمية الثانية (ونستون تشرشل) عندما أطلق على (ستالين) صفة (البلطجي)، ووصف سياساته ب (البلطجة)، بينما تصفها الدراسات الحديثة بصفة (الذرائعية)، وربما تصل هذه الذرائعية إلى حدود (البلطجة). ولذلك نموذج في بعض المواقف الروسية، وهو واضح كل الوضوح؛ ففي يوم 30 آيار مايو 2008م وصل رئيس وزراء روسيا (فلاديمير بوتين) إلى العاصمة الفرنسية بدعوة من حكومتها، وصرَّح هناك بما يلي: "ستتسلم فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي في الأول من تموز يوليو القادم، ونأمل أن يتيح ذلك إعطاء دفع للمفاوضات حول الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والاتحاد الأوروبي"، وفي يوم 11 حزيران يونيو 2008م، صرَّح الرئيس الروسي (ديمتري ميدفيديف) بما يلي: "إنني أقترح عقد قمة أوروبية أمنية بعيداً عن روح الأحلاف، فهناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق روسيا والولايات المتحدة الأمريكية لصيانة الأمن والاستقرار في العالم، برغم خلافاتنا". وفي يوم 27 حزيران يونيو 2008م أكَّد الرئيس الروسي (ديمتري ميدفيديف) قوله السابق بما يلي: "لدينا شكوك كبيرة تجاه مشروع نشر عناصر من الدرع الأمريكية المضادة للصواريخ في أوروبا، غير أن باب المفاوضات بشأن هذا المشروع تبقى مفتوحة". وخرج (ميدفيديف) من المؤتمر الذي جمعه بقادة أوروبا في (خانتي في سيبريا) بالإعلان: "أن الاتحاد الأوروبي قد فتح صفحة جديدة مع روسيا لتحسين العلاقات الاستراتيجية".

غير أن هذه العلاقات لم تتحسن مثلما كان متوقعاً، والأسباب هي (الذرائعية). ويمكن لأي إنسان بعد ذلك أن يتساءل: هل يمكن لمثل هذه التناقضات أن تستمر، وماذا هو متوقّع بالنتيجة؟ لقد استطاعت روسيا وبإعجاز كبير أن تستثير مخاوف العالم من أن تصل الأمور إلى حافة الحرب، أو الحرب ذاتها، في ظل ترسانات الأسلحة النووية، وحتى الأسلحة التقليدية المتطورة، كمثل تلك التي ظهرت من خلال لهيب الحرب في أفغانستان، والعراق، فصنعت نموذجاً للحروب التي يمكن لها الوصول إلى نهاية العالم، أو الوصول إلى تسوية (لا غالب ولا مغلوب).

ولكن من ذا الذي يدفع ثمن فاتورة الحرب الحقيقية؟

هل هي الدول الكبرى؟ أم هي الشعوب التي تسعى لاهثة لمواكبة تحرّك الدول الكبرى؟
يصبح بالإمكان من خلال استقراء أحداث المرحلة النهائية استخلاص بعض ما هو متوقع وما هو محتمل، وفق قوانين الاحتمالات، ومنها:
أولاً: لقد شكَّل (الردع النووي) عاملاً رئيساً في ضمان الاستقرار والأمن بالنسبة للقوى النووية الكبرى، وفي طليعتها (روسيا، وأمريكا)، وبذلك يمكن التأكيد على أن سلاح الردع سيستبعد وقوع حروب عالمية من الصعب استبعاد السلاح النووي من ممارسة دوره.

ثانياً: إن استبعاد (حروب كبرى) قد يسمح بتطوير (الحروب بالوكالة)، واستخدامها كمثل ما كانت عليه أيام الحرب الباردة وما بعدها، وهذا ما ظهر واضحاً عبر الأحلاف الاستراتيجية الحديثة مثل (التحالف الروسي مع فنزويلا، وإيران) على أن يتم ضمان بقاء هذا النوع من الحروب تحت السيطرة، بموجب اتفاقات بين أطراف الأحلاف الكبرى.

ثالثاً: أظهرت تجارب حرب العراق، ودارفور، وأفغانستان أن الحروب المحدودة (حروب الوكالة) ذات نفقات باهظة، ولهذا فإنه من المتوقع أن تأخذ قيادات الدول الصغرى الثمن الكبير الذي ستدفعه الشعوب الضعيفة عندما تصبح أراضيها مسرحاً للأعمال القتالية، كذلك ستضع الدول الكبرى في اعتبارها عقم مثل هذه الحروب، وعجزها عن تحقيق أهداف الحرب لمصلحة أي من الأطراف، وقد يشكِّل ذلك (عامل ردع) للابتعاد عن بؤر التفجُّر البعيدة عن السيطرة.

رابعاً: إن تطور الأسلحة التقليدية من حيث القدرة التدميرية والدقة في إصابة الأهداف قد وضع (الحروب بالوكالة) عند عتبة حروب أسلحة الدمار الشامل، وهذه نتائج حرب العراق تظهر مدى الدمار الذي نزل بالعراق، وكذلك الأمر بالنسبة لأفغانستان، وهذا ما فرض ضرورة إعادة التفكير في البحث عن مخرج من المغامرات الحمقاء، أو التفكير بإمكانات الحسم العسكري، وقد يشكِّل ذلك نوعاً من الضمانات في أسواق تجارة السلاح العالمية للحدّ من حجم صفقات الأسلحة التقليدية والمتطوّرة، أو فرض قيود صارمة على استخدامها.

خامساً: إن انهيار الاقتصاد الأمريكي بتأثير العامل العسكري، أو سياسات الحروب، وتطابق هذا الانهيار مع تجربة تفكك الاتحاد السوفيتي من قبل يشكِّل بدوره عامل ردع للابتعاد عن اعتماد سياسات الحروب أسلوباً لبلوغ الأهداف، والبحث عن السلام باستخدام الوسائل السلمية والتوسُّع في مجال (حوار الإرادات المتصارعة) بأساليب حضارية، وبعيداً عن الإكراه أو ممارسة الضغوط، وهذا بدوره يتطلب اتفاقات ومعاهدات دولية تستطيع الدول الكبرى مجتمعة فرضها لتشكِّل قاعدة لبناء (النظام العالمي الجديد)

مراجع البحث:
1. Pksol Papers (Michael.S.Metrinko), s.s.i (U.S.Army War College, 122, Forbe, Ave. Carlisle, PA 17013-5244, U.S.A (August 2008).
2. The 2006 Lebanon Campaign and the Future of Warfare (Stephen Biddle and - Jeffrey, A Fried man) s.s.i (U.S Army War College), September, 2008.

الكاتب :- بسام العسلي


وقد يكون من المناسب التوقُّف عند بعض ملامح هذه الحرب الشاملة؛ ففي أعقاب انتهاء الحرب الباردة رسميا انصرفت كل دولة من الدول الكبرى لإعادة تنظيم يتناسب مع أهدافها وقدراتها، فانصرفت روسيا لإعادة تنظيم جبهتها الداخلية، وإصلاح اقتصادها، مستفيدةً من الدعم الأمريكي والأوروبي الذي تدفَّق بسخاء لمنع روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفيتي من الانهيار، إذ لم يكن من مصلحة الدول الكبرى ضياع روسيا في متاهات مجهولة، وتطلَّبت عملية البناء وإعادة التنظيم الشامل الفترة من 1991 2003م، وعادت روسيا بعدها إلى المسرح الدولي وهي أكثر قوة وأكبر قدرة، وأشد عدوانية أيضاً، إذ لم يكن باستطاعة الإدارة الروسية الجديدة برئاسة (فلاديمير بوتين) التخلِّي نهائياً عن فكرة الامبراطورية العالمية.

وقد مارست روسيا في تلك الفترة سياسة حذرة وخجولة في إثبات وجودها الدولي عبر الدعم الضمني والمحدود للأنظمة التي اضطر بعضها للبقاء في الفلك الروسي هذا إلى جانب التمسّك بتطوير أسلحة التدمير الشامل والأسلحة التقليدية ولكن بصمت وبدون ضجيج، لتظهر بعد 17 تموز يوليو 2006م بمظهر المنافس الخصم للسياسات الأمريكية مستثمرة الانحرافات الأمريكية، سواء في دعم القضايا الساخنة؛ وفي طليعتها: الدعم المستمر لإسرائيل، وتشكيل غطاء للممارسات الإسرائيلية، علاوة على ما وقع من انحرافات سياسية، وأخطاء عسكرية، وجرائم ضد الإنسانية.

كان محور (برلين باريس) المستثمر الأكبر لتفكيك الاتحاد السوفيتي، وذلك لبناء أوروبا الموحّدة، والحصول على نوع من الاستقلال عن أمريكا، فقد أصبح باستطاعة أوروبا بعد زوال المخاوف من اجتياح جحافل (السلاف) الروسية التحرر من حماية المظلة النووية الأمريكية، ولإعادة تنظيم حلف شمال الأطلسي بحيث يكون للاتحاد الأوروبي ثقل دولي يعادل أو يزيد على قدرة أمريكا. وأمكن خلال الفترة 1991 2008م، تحقيق إنجازات ضخمة من أبرزها: حصول أوروبا على قيادة للقوى البحرية مركزها إيطاليا، ودمج دول أوروبا الشرقية والتي أمكن لها الاستقلال عن روسيا في الكيان الأوروبي مع ما تبع ذلك من زيادة عدد سكان أوروبا إلى (500) مليون تقريباً، وزيادة المساحة الجغرافية لدول الاتحاد، مما يوفّر لأوروبا أفقاً جغرافياً كبيراً، وزيادة في الموارد الاقتصادية، والوصول إلى توحيد العملة الأوروبية واستخدام (اليورو) عملة موحّدة. وأفادت أوروبا من الهيبة الأمريكية والقدرة الأمريكية لتحقيق إنجازاتها في كل المجالات، ومنها على سبيل المثال: حل مشكلة البلقان ذات القوميات المختلفة، وقيادة حرب استقلال (كوسوفو) التي ما كان لها أن تحقق أهدافها لولا القوة الأمريكية التي خاضت حرب (كوسوفو) 1999م، وقد كان لهذه التحولات على الجبهتين الروسية، والأوروبية دور حاسم في اقتحام مواقعهما القديمة (أيام الاستعمار) تحت العلم الأمريكي، ودخول روسيا بقوة في كثير من المناطق التي كانت صعبة أمام توغّل النفوذ السوفيتي.

وعادت أفريقيا والوطن العربي بصورة عامة إلى دائرة الصراعات الدولية سياسياً واقتصاديا، وكان ذلك على حساب المواقع الأمريكية التي ساهمت أمريكا بتحريرها من النظام الاستعماري الأوروبي.

استطاعت روسيا استخدام دبلوماسية مرنة وواضحة وذات أهداف متعددة، أولها: عزل أو إبعاد أوروبا عن أمريكا. وثانيهما: استخدام ما توافر لها من هامش للتحرك الدولي لكي تلعب على جبهتي أوروبا وأمريكا من أجل دعم سياساتها على حساب الطرفين، وبالتالي تشكيل رأي عام داعم لسياسة روسيا، ومتنكّر للسياسات الأمريكية وللمواقف الأوروبية المؤيدة لأمريكا. وثالثها: الربط بين مصالح أوروبا وروسيا، والإفادة في ذلك من العلاقة التاريخية القديمة بين موسكو وباريس (أيام القياصرة).

ولم يكن عقد قمة الدول الثماني في عاصمة روسيا القديمة (بطرسبورج) في 14 18 تموز يوليو 2006م، إلاّ نموذجاً لمحاولات (الكرملين) في إعادة بناء جسور روسيا مع أوروبا. ورابعها: تنظيم هجمات إعلامية وسياسية عنيفة تقوم بها موسكو في كل مرة، وتنجح السياسة الأمريكية في إحباط جهود روسيا للتلاحم مع أوروبا، واتخاذ مواقف تعتبرها موسكو خطرة على أمنها ومصالحها العليا؛ كقضية نشر الدرع الصاروخي في أوروبا (تشيكيا، وبولونيا)، وكنجاح أوروبا وأمريكا في ضم دول من أوروبا الشرقية إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مثل: جورجيا، وأوكرانيا، ودول البلطيق أيضاً، والتي بذلت جهوداً لبناء علاقات جديدة ومتطورة مع أوروبا وأمريكا.

وقد استطاعت موسكو بفضل هذه الأساليب اكتساب نوع من التعاطف مع شرائح واسعة في أوروبا أصبحت تجد في روسيا (مصلحة عليا) لتحقيق توازنات دولية، وبحيث لا تتعرّض مصالح روسيا للإهمال أو الخطر، وإظهارها بمظهر (ضحية السياسات الغربية الأمريكية). وعلى سبيل المثال: عندما تقرر إبعاد روسيا عن منظمة التجارة العالمية بسبب اجتياحها لجورجيا، صرَّح المفوض التجاري الأوروبي (بيتر ماندلسون) يوم 5 أيلول سبتمبر 2008م بما يلي: "يجب عدم توقيع عقوبة على روسيا بسبب أعمالها القتالية في جورجيا، أو اتخاذ إجراءات من شأنها إبطاء سعيها للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وما من مصلحة لأحد بإبقاء روسيا خارج منظمة التجارة العالمية".

والمهم في الأمر هو أن روسيا استطاعت من خلال إعادة تنظيم سياساتها وتسلحها ودعم جبهتها الداخلية وتطوير علاقاتها الخارجية أن تفرض تحديات قوية كان من نتيجتها استنزاف القدرات الأمريكية معنوياً ومادياً، وأصبح بإمكان نائب رئيس الوزراء الروسي (ايجور شوفالوف) الإعلان أمام المنتدى الاقتصادي الدولي، الذي عُقد في (بطرسبورج) يوم 8 حزيران يونيو 2008م: "بأن روسيا ستصبح سادس قوة اقتصادية في العالم"، وكان هذا الإعلان كافياً لإبراز التناقض بين عمليات بناء القدرات الذاتية للدول المنافسة لأمريكا، فيما كانت أمريكا تدمّر قدراتها الذاتية بتنفيذ سياسات منحرفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق