الاثنين، 23 مايو 2011

أخطر جاسوس في تاريخ إسرائيل

إيلي كوهين... الجاسوس القادم من الأرجنتين يسكن أمام مقرّ قيادة الجيش السوري
القاهرة - صلاح الإمام

بعد إعلان الوحدة بين مصر وسورية في فبراير (شباط) عام 1958، أدركت إسرائيل أن الصراع مع العرب بدأ يتخذ أبعادًا جديدة، وأصبح شغل الأجهزة الإسرائيلية الشاغل العمل على تقويض تلك الوحدة، فرأى فيها ساسة إسرائيل أنها سوف تؤدي في المدى القصير إلى شل الذراع الإسرائيلية في المنطقة، وعلى المدى الطويل الى أن إسرائيل أصبحت تعيش وسط كماشة عربية، تحركها إرادة سياسية واحدة... وقيادة عسكرية واحدة.

سوري الأصل... مصري النشأة... يهودي الديانة... الغرض الرئيس من زرعه تدمير العلاقات المصريّة - السوريّة

بعد حادث انفصال الوحدة الذي وقع في 28 سبتمبر (أيلول) 1961، تنفست إسرائيل الصعداء، لكن هذا لم يكن يعني بالنسبة إليها نهاية الكابوس المفزع، لأن الشعب السوري في مجموعه ما زال مؤمنا بزعامة عبد الناصر، واحتمال عودة الوحدة ثانيا ما زال قائما، وهكذا أصبحت المهمة الأولى لجهاز المخابرات الإسرائيلي منع أي احتمال لعودة الوحدة في المستقبل بين مصر وسورية، وقال ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي لرئيس الموساد: فاجأتنا سورية بالوحدة مع عبد الناصر مرة، وتحملناها بشق الأنفس، لكن من الآن فصاعدا يجب ألا نفاجأ بها مرة أخرى مطلقًا.. وبأي ثمن.

استوعب رئيس الموساد كلمات رئيسه جيدا، وفي سبيل تحقيق الهدف قفز ذهنه فورا إلى تلك الشخصية الغامضة التي تدربها المخابرات الإسرائيلية منذ فترة, إيلي كوهين... إنه من مواليد مدينة الإسكندرية في مصر في ديسمبر (أيلول) عام 1924، وعائلته من سورية أصلا ثم نزحت إلى مصر، كان واحدًا من بين ثمانية أشقاء ولدوا في الإسكندرية، ويحملون الجنسية المصرية، وبقي هو في مصر الى أن التحق بالجامعة. عام 1944 شارك كوهين في صفوف منظمة الشباب اليهودي في الإسكندرية، وكان ولاؤه منذ ذلك الحين الى تلك المنظمة ثم الى دولة إسرائيل منذ اليوم الأول لقيامها. لما قامت دولة إسرائيل هاجرت عائلته اليها إلا هو، بقي للقيام بدور استخباراتي لخدمة الدولة الوليدة، وكانت مهمته بناء الجسور مع عدد كاف من الشباب اليهود في مصر لاستخدامهم سرًا عند الحاجة إليهم.

في 15 يوليو (تموز) عام 1954 فوجئت مصر بحدوث سلسلة من الأعمال التخريبية في بعض المنشآت البريطانية والأميركية، وكذلك دور السينما، ثم في اليوم الثاني بدأت مجموعة أخرى من الأعمال التخريبية في منشآت أخرى عدة في الإسكندرية، واتجهت أصابع الإتهام إلى الإخوان المسلمين بسبب رفضهم مشروع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، لكن السلطات المصرية اكتشفت شبكة الشباب اليهودي وعددهم 12 شابا كانوا خلف هذه العمليات الإرهابية، فقبضت عليهم وحاكمتهم، وهي العملية المعروفة باسم «سوزانا} وتعرف أيضا بـ «فضيحة لافون».

البداية من الأرجنتين

كان كوهين أحد أعضاء الشبكة، لكن نظرا الى عدم كفاية الأدلة ضده أُفرج عنه، لكنه وُضع تحت رقابة العيون الأمنية وضيِّق الخناق عليه، فاضطر للهجرة الى إسرائيل عام 1957، وعمل كمحاسب في إحدى الشركات، لكنه ظل يحلم بأن يكون جزءاً من عالم الجاسوسية، فعرض نفسه على المخابرات الإسرائيلية مرتين، ولم يتلق إجابة، ثم فوجئ ذات يوم بشخص يزوره في عمله يبدي له استعداده للتوصية بقبوله في جهاز المخابرات الإسرائيلي بشرط أن ينجح في الاختبارات المطلوبة، ويتنبه للمخاطر التي عليه أن يتحملها. عندما وجد كوهين أن المخاطر المتوقعة أكبر مما اتسع لها خياله، تردد قليلا، ثم صدر بعد ذلك بعشرة أيام قرار بفصل خمسة موظفين كان هو واحدا منهم، فشعر بحسه الفطري أن المخابرات الإسرائيلية وراء فصله، ولم يكن لديه دليل على ذلك، لكنه في النهاية سلَّم نفسه لهم.

التحق كوهين للعمل بالموساد، وبدأ يتلقى تدريباته واجتاز بعضها، ثم كان التدريب الأخير يتضمن سفره من تل أبيب إلى القدس بأية وسيلة يختارها هو، وجاءته التعليمات قبل سفره تقول له: سوف تتجه إلى مكتب السياحة، وبعد إشارة متفق عليها سوف تحصل على جواز سفر فرنسي، باسم أحد اليهود المصريين الذين هاجروا إلى جنوب إفريقيا وهو الآن في زيارة لإسرائيل، بهذا الجواز سوف تتجه إلى القدس وستبقى هناك عشرة أيام لا تتكلم سوى الفرنسية أو العربية وباللهجة المصرية فحسب، واسمك من الآن فصاعدا هو مارسيل كويان، لا تنس أن لك اسما غير اسمك الأصلي، ولا يغرب عن بالك لحظة أنك قد تكون مراقبا، وأن أي إهمال من جانبك قد يؤدي إلى قتلك.

قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) عام 1960، كانت الإستعدادات لمهمة كوهين على قدم وساق، وأصبح جاهزا للعمل في إحدى الدول العربية، وكانت المهمة العاجلة التي تسعى إليها إسرائيل في تلك الفترة هي فك الوحدة بين مصر وسورية بأي ثمن، ولذلك فلا بد لإسرائيل من التسلل إلى الطبقة الحاكمة وتدبير انقلاب في إحدى الدولتين، إما مصر وإما سورية، لكن بعد مناقشات عدة استبعدت مصر من أن تكون مسرحا لتلك العملية، واستقر الرأي على سورية.

حياة جديدة

تقرر أن تبدأ مهمة كوهين في الأرجنتين، ويرجع ذلك الى سببين: أولهما أن الملحق العسكري السوري هناك هو اللواء أمين الحافظ، وكان معروفاً عنه معاداته للوحدة مع مصر ولنظام جمال عبد الناصر، ومن ثم فلديه الدوافع كافة لتنظيم انقلاب يقوم به أنصاره داخل الجيش السوري، وثانيا كي تعد لكوهين قصة محبوكة تؤهله لأن يعيش بها بين القوم الذين سيعمل بينهم حينما يذهب إلى سورية، قال له ضابط المخابرات الإسرائيلي: «إليك الآن تاريخ حياتك الذي ستعيش به في الأرجنتين، إنك ولدت في بيروت، وعندما بلغت الثالثة من عمرك انتقلت إلى الإسكندرية مع عائلتك، واسمك من الآن فصاعدا «كامل أمين ثابت»، واسم والدتك سعيدة إبراهيم، وعائلتك سورية، وهجرتكم من الإسكندرية كانت بعد سنة من وفاة شقيقتك، ووالدك كان تاجر نسيج، وفي عام 1946 هاجر عمك إلى الأرجنتين، وبعد وقت قصير كتب إلى والدك ينصحه باللحاق به، وفي عام 1947 وصلت إلى الأرجنتين مع عائلتك، حيث دخل والدك وعمك في شراكة مع رجل ثالث في تجارة النسيج في بيونس أيرس، لكن الأمور لم تمض كما يجب، وأفلس الشركاء، وفي عام 1956 توفي والدك ولحقت به والدتك بعد ستة أشهر، وذهبت أنت لتعيش مع عمك ثم عملت فترة في وكالة سياحة، ثم انفردت بالعمل وحدك، وحققت نجاحا كبيرا». أنهى ضابط المخابرات الإسرائيلية حديثه لكوهين قائلا: «الآن تستطيع أن تذهب وسنتولى نحن بالنيابة عنك الإجراءات الرسمية كافة، وعليك أن تتصل بنا غدا»، وعندما هَّم بترك الغرفة ناداه الضابط فجأة: «كامل»، فالتفت كوهين نحوه بسرعة، فقال له الضابط: «حسنا جدا، يسرني أن أراك وقد بدأت تفكر كعربي، كل ما تحتاج إليه الآن لتصبح مقنعًا هو شارب كبير».

من وقتها أصبح للمخابرات الإسرائيلية في الأرجنتين مندوب دائم يتابع نشاط كوهين ويقابله بانتظام، ومن اللحظة الأولى لوصول كوهين إلى هناك وجد كل شيء معدا له، فهناك حساب باسمه في البنك، وشقة مستأجرة باسمه «كامل أمين ثابت» في حي كولي تاكيدا، في قلب مدينة بيونس أيرس، وثمة مدرسة ستعطيه دروسا في اللغة الإسبانية، وعنوان نادي العرب المسلمين في المدينة مع قائمة بأهم رواده، خصوصاً كان عليه أن يهتم بجورجيت الإبنة الصغرى لهواري مشهور، المهاجر السوري القديم الذي يشغل منصبا مهما في الفرع المحلي لشركة «إسو» للبترول.

بدأت شهرة كامل أمين ثابت تنتشر بين أفراد الجالية السورية، باعتباره من أشهر العزاب الظرفاء، خصوصاً بين الجنس الآخر، ثم بدأ يبذل مجهودا مكثفا للتعرف الى الشخصيات البارزة، فبدأ يتردد على النادي العربي ثلاث مرات أسبوعيا، وكانت ثقافته وكراهيته للصهاينة وإعلاناته المتكررة في جريدة «العالم العربي» التي يصدرها أبناء الجالية، سببًا في أن يستحوذ على إعجاب عبداللطيف حسان صاحب الجريدة الذي أصبح صديقه، ومن ثم حصل له على دعوة لحضور حفل استقبال رسمي تقيمه السفارة السورية، وفي الوقت نفسه أيضا ستحتفل زوجة الملحق التجاري بعيد ميلادها، وقال له حسان: «إنك اثرت اهتمام زوجة الملحق التجاري، قالت لي إنك شخصية مؤثرة إلى حد كبير».

لكن كامل قال له إن من يلفت انتباهه حقا هو ذلك الضابط هناك، الذي يبدو فعلا شخصية مؤثرة وفي أوائل الأربعينات من عمره، فصحبه حسان إلى الضابط قائلا: «سيدي اللواء... إسمح لي أن أقدم لكم رجلا وطنيا سورياً بكل ما في الكلمة من معنى»، ثم نظر نحو كامل قائلا: «هذا هو اللواء أمين الحافظ الملحق العسكري للسفارة».

لم يكن الحافظ من النوع المحب للكلام، مع ذلك وبعد قليل من الوقت قال له كامل: «سيدي اللواء... سمعت أن ثمة قلاقل بين جموع شعبنا في سورية في الوقت الحاضر»، فقال الحافظ: «نعم... استغل جمال عبد الناصر الوحدة معنا كي يحاول أن يستولي على سورية ويسيطر على الأمور، ولو أن الأمر بيدي لحطمت هذه الوحدة وقضيت على عبد الناصر وإسرائيل معا».

سأله كامل: «أتعتقد أن سورية قادرة على ذلك بمفردها؟» رد الحافظ: «إني أؤمن بذلك حقا، لكن علينا أولا أن نغير نظام الحكم الراهن، فقد ضللتهم شعارات عبد الناصر الزائفة»، وقال له كامل: «سيدي... لو أن السوريين من أمثالك لكان مستقبل سورية مختلفًا تمامًا. لا يتحقق مثل تلك المعجزات الكبرى إلا على أيدي زعماء مثلك».

كلمات في الصميم

أصابت كلمات كامل ثابت الهدف في الصميم، فقد خاطبت غرور الحافظ الذي كان في تلك اللحظة على اتصال وثيق بمجموعة في دمشق تدبّر لقلب نظام الحكم، وخلال فترة قصيرة توثقت علاقات كامل أمين ثابت تمامًا بالملحق العسكري السوري في الأرجنتين.

استدعت المخابرات الإسرائيلية كوهين، حان الوقت كي يدخل سورية، ونظرا الى أنه يحتاج أجهزة إرسال واستقبال وأدوات أخرى تلزمه في عمله كجاسوس، أُعدت ترتيبات خاصة قبل دخوله سورية: سافر بالبحر إلى بيروت أولا، وتعرف الى شخص معين كان تاجرا من أصل سوري، له علاقات وثيقة برجال الجمارك السوريين على الحدود مع لبنان، وصحبه التاجر فعلا وبعد أن قال الأخير لضابط الجوازات على الحدود إن حقائب كامل لا تضم سوى صور جنسية، وأعطاه مبلغا من المال، مرت الحقائب بسلام.

حمل كامل أمين ثابت في طريقه الى دمشق اسم وعنوان تاجر في دمشق، كي يتصل به ويدبر له «فيللا» بالإيجار. كانت الفيللا تطل على مركز قيادة الجيش السوري في حي «أبو رمانة»، وفي مواجهة المدخل الفاخر لبيت الضيافة حيث ينزل ضيوف الحكومة السورية، وعندما طالبه المالك بإيجار سنة مقدما لم يتردد لحظة ووضع في يده 1300 جنيه نقدا، مستغلاً الميل الطبيعي للثرثرة وتناقل الأخبار، وهو أمر من شأنه أن ينشر بسرعة أخبار الساكن الجديد الثري، ما يجعل من يطرقون بابه كثيرين.

كان حادث انفصال الوحدة بين مصر وسورية وقع قبيل وصول كامل إلى دمشق بأسابيع قليلة، وكان ذلك سر قرار المخابرات الإسرائيلية توجيهه بضرورة ذهابه الى دمشق، فقد كانت التوقعات كافة تشير إلى احتمال قيام انقلاب مضاد يكون مواليا لزعامة عبد الناصر، لذلك لم تكن مكافحة الجاسوسية تشغل أي جزء من اهتماماتهم، ولم يعرف أحد منهم أن هذه الغفلة الكبرى ستكون مقبرتهم جميعًا.

لم يكن كوهين يفضل الوجود في سورية بل كان يريد الذهاب إلى مصر والعمل فيها كجاسوس لحساب إسرائيل، فهو من مواليد الإسكندرية وتعلم في مدارسها، ويجيد اللهجة المصرية، فضلا عن أنه يريد الانتقام من الشرطة المصرية بنجاحها في كشف عملية سوزانا، أو «فضيحة لافون» كما عرفت بعد ذلك، لكن جهاز المخابرات الإسرائيلية رأى أن يرسل كوهين إلى سورية بدلا من مصر، وكانت أسباب ذلك عدة: أولها أن الإجراءات الأمنية في مصر أكثر تطورا وصرامة من سورية، خصوصا بالنسبة الى القادمين من الخارج، وأصبح لمصر جهاز أمني هو الأكثر كفاءة بين الدول العربية كافة، ثم إن سورية، لا سيما بعد الانفصال، أصبحت بابا جديدا لضرب عبد الناصر في مصر وإسقاط هيبته في العالم العربي، والهدف الإسرائيلي العاجل الآن يركز على منع احتمال عودة الوحدة بين مصر وسورية مستقبلا، وهكذا... أصبح إيلي كوهين أو كامل أمين ثابت في دمشق باعتباره أخطر جاسوس لإسرائيل.

إيلي كوهين...مليونير المهجر يصبح محط أنظار المجتمع السوري وصديق رئيس الجمهورية!
القاهرة - صلاح الإمام

أصبح إيلي كوهين أو كامل أمين ثابت في قلب دمشق، كي يبدأ مهمته كجاسوس لحساب المخابرات الإسرائيلية، وخلال وقت قصير للغاية أصبح محط أنظار المجتمع السوري، لقد بدا مناسبًا تمامًا للصورة التي لفقتها له المخابرات الإسرائيلية، فهو مليونير سوري قادم من المهجر، وهو وطني غيور على مصالح بلده، وهو شديد التعصب ضد إسرائيل ويدعو إلى الدخول في حرب ضدها فورًا، ويكره تمامًا جمال عبد الناصر، ويقول إنه يريد السيطرة على العالم العربي، لمجرد تحقيق حلم الزعامة الشخصية.

في الغالب، تطلب أجهزة المخابرات من جواسيسها أن يتصرفوا في حياتهم تصرفات الأشخاص العاديين كي لا يلفتوا الأنظار إليهم، بل تزرع أحياناً جاسوسها في مجتمع ومكان معينين، ويتصرف بشكل عادي لمدة عشرة أو خمسة عشر عاما قبل أن يبدأ تنشيطه، لكن الموساد تصرفت في هذه الحالة على نحو مختلف تماما، لأنها رأت أن الوقت لا يسير في صالحها، وسورية يمكن أن تستعيد علاقاتها بعبد الناصر في أي وقت، فضلا عن أن كلمة الأخير لا تزال هي المسموعة والمسيطرة في الشارع السوري، من هنا اختارت المخابرات الإسرائيلية لجاسوسها هذا نمطًا من الحياة يلفت إليه الأنظار بسرعة وليس العكس، إنه يتصرف باعتباره المليونير القادم من المهجر، والذي ينفق المال ببذخ ويتبرع لتمويل نشاطات حزب البعث السوري الحاكم... وهكذا كانت تلك الأموال الضخمة تأتي من إسرائيل إلى كامل أمين ثابت في دمشق عن طريق بنك أميركي في الولايات المتحدة، على أساس أنه يحتفظ بأرصدة ضخمة من الدولارات.

أصبح كامل المليونير ورجل الأعمال العائد إلى وطنه، الرجل المناسب في المكان المناسب، وفي الوقت المناسب، لقد أصبحت أبواب المجتمع الراقي في دمشق مفتوحة أمامه، حيث تكفّل دفتر شيكاته بإقناع الرجال، بينما تكفلت معاطف الفراء والهدايا القادمة من باريس بإقناع النساء بأنه مواطن غيور لا يفكر ليل نهار إلا في سورية ومصالحها.

ذات ليلة تلقى كامل اقتراحا مدهشا، لقد عرض عليه سالم سيف، مدير الإذاعة السورية الموجهة إلى أميركا اللاتينية، أن يستفيد من خبرته في ربط مشاعر المغتربين السوريين ببلدهم، فيقوم كامل نفسه بإعداد وتقديم برنامج من الإذاعة الموجهة في دمشق مخصص للسوريين في المهجر... اقتنص كامل الفرصة فورا، سوف يمضي وقت طويل قبل أن يعرف أن سالم سيف هو نفسه عميل إسرائيلي أيضا!!، نجح الموساد في زرعه أخيراً داخل الإذاعة السورية.

كان تردُّد كامل على الإذاعة السورية يعطيه الفرصة للتعرف الى عدد كبير من قيادات الإعلام السوري، لكن الأهم من ذلك أن البرنامج الذي يذيعه من قلب راديو دمشق أصبح هو ذاته وسيلة أخرى ينقل بها رسائله الشفرية السرية إلى المخابرات الإسرائيلية في تل أبيب!! يستطيع كامل الآن أن يبعث برسائله بالوسيلة التي يختارها، فهو يستطيع أن يرسلها داخل طرود التحف الفنية التي يرسلها إلى عنوان محدد في باريس، تحت ستار أنه رجل أعمال ناجح له علاقات دولية تتيح له إبرام صفقات غير عادية، وثانيا يستطيع أن يستخدم جهاز الإرسال السري الذي أمدته به الموساد ويحتفظ به في مكان سري داخل الفيللا التي يعيش فيها أمام قيادة الجيش السوري في دمشق، وأخيرا فإنه يستطيع أن يرسل برسائله السرية علنا ضمن البرنامج الموجّه الذي يقدمه من إذاعة دمشق، ويقوم الموساد بتسجيله.

أبيض وأسود

طوال الوقت، كانت المخابرات الإسرائيلية تبني خططها على أساس دراستها للعقلية العربية التي لا ترى في الواقع حولها سوى لونين اثنين فحسب، الأبيض والأسود. تقبل السوريون ببساطة شخصية كامل القادم من المهجر وينفق ببذخ، ويتعصب بشدة لحزب البعث، ويكره تماما عبد الناصر، ولم يتنبهوا إلى أن الواقع لا يكون كذلك دائما، وبعد كل شيء... فإن المعدة المليئة من النادر أن تتعصب لشيء، والشخص المليونير حقا لا يتعصب لأي شيء حوله أكثر من أمواله وثروته. على رغم ذلك، كانت حالة من الهيستيريا تسيطر على الزمرة الحاكمة في دمشق في أعقاب مؤامرة الانفصال عن مصر.

بعد أن مضت الفترة التحضيرية الأولى لكامل في دمشق، أصبح للمخابرات الإسرائيلية أن تراجع معه ما جرى، استعدادا لما سيجري، فسافر إلى الأرجنتين على أساس أنه سيصفّي بعض أعماله، وبعد أن قضى هناك أياما قليلة سافر إلى أوروبا، ثم إلى إسرائيل.

أصبح الجاسوس يكلّف المخابرات الإسرائيلية مبالغ ضخمة من الأموال يومياً، لكنها لم تهتم، فالهدف الأساسي يبرر كل شيء، وهو منع سورية بأي ثمن من العودة للوحدة مع مصر، واختراق الطبقة الحاكمة الآن هو كفيل بذلك، وعن طريق الإختراق أصبحت المخابرات الإسرائيلية تتابع آخر التطورات السياسية داخل حزب البعث الحاكم في سورية، وكذلك الموقف السياسي السوري نحو مصر، وعلاقات سورية مع الدول العربية الأخرى، ثم أخيرا الخطط العسكرية كلها المتعلقة بتجهيزات وتحصينات سورية في هضبة الجولان ذات الموقع الاستراتيجي المهم.

عاد كامل إلى سورية، وقد أصبح أكثر إقبالا على مهمته كجاسوس، وعرف الآن أن عليه أن يثق تماما بسالم سيف، مدير البرامج الموجهة في الإذاعة السورية، لأنه هو الآخر عميل سري للمخابرات الإسرائيلية، وبدأ هو وسالم يتناوبان إقامة الحفلات الساهرة والصاخبة التي تدعى الشخصيات السورية ذات النفوذ إليها، وخصوصا كبار الضباط الموالين لحزب البعث الحاكم، ولم تكن تلك الحفلات مجرد مناسبة اجتماعية فحسب، بل كانت القرارات التي تخص أمور الدولة تُتخذ فيها، كذلك كانت الخلافات والمناقشات بين كبار الضباط تدور فيها.

أصرت كاملة زوجة شقيق سالم سيف على حضور كامل، لأنها دعت شخصيات مهمة وجديدة. كانت كاملة امرأة تتميز بأنوثتها الساحرة وقدرتها على خلق جو من الاندماج بين مدعويها، فقالت لكامل أن من بين المدعوين ضابطاً برتبة عقيد يرغب في التعرف اليه، بعد كل ما سمعه عنه وعن وطنيته وتعصبه المطلق ضد إسرائيل.

كان العقيد هو سالم حاطوم... أخبره كامل بأنه يدعوه إلى حفلة في منزله بعد يومين، ثم أضاف مداعبا: «إنها مجرد حفلة محدودة، هل تشرفني بحضورك يا سيدي العقيد؟» فرد العقيد: «سأحاول الحضور... «. في نهاية الحفلة، كان كامل حصل على معلومات دقيقة عن خطط حزب البعث الذي ينتمي إليه حاطوم للقيام بانقلاب عسكري يتولى زمام السلطة في سورية.

اختراق الجيش

هكذا عاد الجاسوس الإسرائيلي إلى المنزل وانتظر الساعة المحددة للإرسال، وبعث بالمعلومات الجديدة إلى إسرائيل، وبعدها بيومين أقام حفلة في الفيللا التي يسكنها، وجاء مدعووه وفي مقدمهم العقيد حاطوم، وتطوعت وزارة الدفاع السورية بإرسال عدد من الفتيات العاملات في الوزارة ليقمن بدور المضيفات لكبار الضباط والقادة المدعوين. تم ذلك كله على أساس أن الحفلة هي عيد ميلاد، وفيها قال حاطوم لكامل: «إنني بالتأكيد سأستمتع بوجودي هنا الليلة، خصوصا بعد تلك الأيام والليالي الطويلة من الملل على الحدود مع فلسطين في الأنفاق والمخابئ التي بنيناها للوقاية من الهجمات الجوية الإسرائيلية». عندما أبدى كامل تخوفه من وجود نوع من المبالغة في كلمات حاطوم، تطوع الاخير بدعوته إلى جولة في تلك الأنفاق والمخابىء والقواعد!!! فهو قائد المنطقة هناك، ويرى أن كامل رجل وطني مخلص ومقرب من الحكم.. و»واحد منا»، وهكذا تلقى كامل برقية من قائد الجبهة تدعوه للقيام بجولة في القاعدة، وبدأ يستوفي الإجراءات المعتادة لاستخراج تصاريح المرور.

ذهب كامل فعلا إلى هناك، إنها أهم قاعدة على الحدود بين سورية وإسرائيل، وبمجرد أن أرسل بما رأه في القاعدة من تحصينات إلى تل أبيب، جاءته التعليمات فورا: حاول أن تقوم بجولة أخرى داخل المنطقة، فنحن نفتقر إلى معلومات عن القطاع الثالث. أخذ كامل يغدق الهدايا الثمينة على أصدقائه وأصبح قائد الجبهة نفسه صديقه الذي يأتيه كلما حصل على إجازة في دمشق، وفي إحدى تلك المرات دق عليه الباب صباحا بينما كان كامل يرسل رسالة بالمعلومات إلى تل أبيب.

بعد فترة، تلقى كامل برقية تستدعيه إلى تل أبيب، فلديهم أسئلة عدة عن الاحتمالات المقبلة لتغيير نظام الحكم في سورية لا تسعف أجهزة الإرسال بالإجابة عنها، وهكذا سافر إلى الأرجنتين أولا ومن هناك سافر إلى تل أبيب. في تلك المرة، تنبأ لهم بأن أمين الحافظ الملحق العسكري السوري في الأرجنتين سابقا سيكون هو الرجل القادم في سورية، وسوف يجمع بين منصبي رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة.

قبل أن يعود كامل إلى سورية، تم الإنقلاب الذي وقع فعلاً في 8 مارس (آذار) 1963، ومنذ تلك اللحظة أصبح طريق كامل في سورية مفروشا بالورد، فالرئيس الجديد لسورية هو صديقه الحميم تماما، وزوجته تلقت منه سابقًا هدايا كثيرة.

احتفالا بالنظام الجديد، أقام كامل حفلة ضخمة لجميع أنصار النظام الجديد في سورية، حيث أخذ هو يحتفي بالضيوف باعتباره صديق الحكومة الأول ونصيرها الكبير. هناك، ظهر اللواء أمين الحافظ والى جانبه زوجته التي كانت ترتدي فراء ثمينا كان كامل نفسه أهداها إيّاه. تعرف كامل في تلك الحفلة بمقاول سوري كان هو نفسه المتعهد الذي رست عليه عملية تحويل نهر بانياس إلى سورية، وهو مشروع في غاية الأهمية بالنسبة الى سورية والعالم العربي بأكمله.

بدأ نظام الحكم الجديد في سورية يكلف كامل بمهام حيوية، ومن بينها إقناع الأثرياء السوريين في الخارج باستثمار أموالهم في سورية، وهي المهمة التي أكد كامل إمكان نجاحها، لكن المستثمرين، على حد قوله، من حقهم أن يعرفوا أين ستستخدم أموالهم، وإذا كان ثمة إنفاق سري كالإنفاق على مشروعات الدفاع مثلا، فإنه يحتفظ بسريته لنفسه ويقنعهم بعدم إفشاء تلك الأسرار!!!

كثرت رسائل كامل إلى إسرائيل عن أوامر العمليات وقرارات الحزب الحاكم وخطط التسليح والرسوم الطبوغرافية وبعض المعلومات كان الموساد يتلقاه عن طريق الإذاعة السورية نفسها. كثرت الحفلات التي يقيمها كامل في منزله، وبدأ يلتقط الصور كي تصبح وسيلة للابتزاز في ما بعد تحت يده.

الجاسوس الوزير

بدأ اسم كامل يتردد باعتباره مرشحًا لمنصب وزاري مهم، ثم وردت الأنباء من القاهرة بأن الفريق علي عامر رئيس هيئة أركان حرب الجيش المصري سوف يأتي في زيارة قصيرة إلى سورية، لكي يتفقد أوجه النقص في المنشآت الدفاعية السورية على الجبهة مع إسرائيل، وهو يأتي كممثل للقيادة العربية الموحدة التي نشأت في ظل الجامعة العربية وأمينها العام في ذلك الحين عبد الخالق حسونة. لم يكن كامل متحمسا للذهاب، إلا أنه الآن أهم شخصية مدنية في سورية، ومرشح لمنصب وزاري مهم، لم يستطع أن يرفض الدعوة ليكون ضمن الوفد العسكري السوري الذى سيصاحب الفريق عامر في زيارته.

في تلك الفترة، سافر أمين الحافظ في رحلة سرية للعلاج الى الخارج، وفي يوم عودته إلى دمشق كان طبيعيا أن يجتمع بزملائه في القيادة العليا، وبعد ساعات قليلة فوجئ بأنباء ما دار في الاجتماع مذاعة من راديو إسرائيل.

بدأ التفكير.. من هو هذا الشخص الذي استطاع تسريب تلك المعلومات؟.. بدأ الحافظ وأعضاء القيادة السورية يتبادلون الشكوك الصامتة في بعضهم بعضًا، بغير أن يتجه الشك نحو شخص كامل، فهو الصديق الشخصي والحميم لرئيس الجمهورية، والمليونير الوطني المتعصب تماما لحزب البعث، والذي يدعو إلى محاربة إسرائيل فورا.. اليوم قبل الغد.

في اليوم التالي، تكررت الواقعة نفسها... على رغم أن الاجتماع كان مقصورا على رئيس الجمهورية وعدد محدود من الشخصيات، فوجئ الحافظ مرة أخرى براديو إسرائيل يذيع أنباء دقيقة عن مشروع نهر بانياس وآخر التحركات العسكرية السورية والقرارات السرية الأخرى التي اتخذت!

كلّف الحافظ جهازه السري بتحري الأمر في سرية تامة، لأن شكوكه تدور حول شخصية مجهولة ولا بد من أن تكون رفيعة المستوى وضمن القيادة العليا، ولم يجد رئيس الجمهورية من يبوح له بهمومه في تلك الليلة سوى شخص واحد في سورية يثق فيه تماما، هو كامل أمين ثابت!!، لكن الأمور كانت تسير على نحو آخر... في مكان آخر.

في القاهرة، كان جهاز المخابرات المصري يراجع الصور المنشورة لزيارة الفريق عامر للجبهة السورية، كإجراء روتيني عادي في مثل تلك الأحوال، وفجأة، قفز أحد ضباط المخابرات المصرية من مقعده مذعورا تماما وهو يقول: «هذا الوجه ليس غريبا عني!!»، نظر إليه زملاؤه بطريقه حذرة... وبدأ الضابط يراجع نفسه وذاكرته، وبدأت المخابرات المصرية تراجع ملفاتها.

في النهاية، لا بد من مواجهة الحقيقة المريرة: الشخص الذي يرتدي ملابس عسكرية ويقف إلى جوار الفريق علي عامر مع كبار القادة العسكريين السوريين داخل التحصينات السرية في هضبة الجولان... ذو الشارب الضخم الذي يبدو أليفا تماما لكل هؤلاء العسكريين الحاكمين في سورية، إنه هو نفسه إيلي كوهين، ذلك اليهودي الذي هرب من مصر بعد فشل عملية سوزانا.

بدأت الاتصالات العاجلة فوراً بين عدد محدود من شاغلي المراكز العليا في مصر. في النهاية جاء القرار: الرئيس جمال عبد الناصر يريد أن يراجع بنفسه الملف كله ومن أوله، فالأمر بدا أكثر خطورة حتى مما تعتقد المخابرات المصرية.


إيلي كوهين... من جمال عبدالناصر إلى دمشق... الوقائع ولا شيء غيرها
القاهرة - صلاح الإمام

حينما تلقى الرئيس جمال عبدالناصر الملف الكامل للجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي يعيش في دمشق باسم كامل أمين ثابت، كان الموقف مختلطًا بشدة. من ناحية تقول المخابرات المصرية إن هذا الشخص الذي اكتُشف بالصدفة البحتة من خلال فحص الصور الخاصة بزيارة الفريق علي عامر للتحصينات العسكرية السورية في الجولان، هو نفسه اليهودي المصري الذي هرب من مصر بعد اكتشاف عملية سوزانا، والضابط المصري الذي اكتشف ذلك يقرر أنه على رغم هذا الشارب للشخص المقصود في الصورة، والخلفية التي يصدقها السوريون عنه وعن تاريخ حياته، فإن الدليل حاسم على أن اسم كامل أمين ثابت هو مجرد غطاء ملفّق، بينما هو في الحقيقة إيلي كوهين.

من ناحية أخرى، كانت علاقات عبدالناصر بحزب البعث الحاكم في سورية معقدة للغاية، فبعد مؤامرة الانفصال نشط كل خصوم عبدالناصر في العالم العربي، حتى قال البعض إنه لم يكن من وحدة بين مصر وسورية، إنما مجرد استعمار مصري لسورية، وأن عبدالناصر يرفع شعار القومية العربية كمجرد ستار يخفي به طموحه لحكم العالم العربي، وأن سنوات الوحدة مع مصر كانت مجرد سنوات من القهر والقمع والتعذيب، وسيطرة أجهزة المخابرات... إلخ.

فوق ذلك كله كان أحد الموقعين على البيان المؤيد للانفصال هو صلاح الدين البيطار الذي كان عبدالناصر حتى تلك اللحظة يعتبره قوميا ووحدويا إلى أقصى حد، ومع وجود النظام الانفصالي على مقعد السلطة في سورية بلغت حملة التشهير بمصر وبعبد الناصر ذروتها، لكي تنطلق بعد ذلك إلى ضرب أي أمل في نفوس الجماهير بعودة الوحدة من جديد.

لم يكن ممكنًا إطلاقًا أن يتسلل الجاسوس الإسرائيلي ليخترق السلطة الحاكمة في سورية إلا في ظل هذا المناخ الانفصالي السائد، فهؤلاء الضباط الحاكمون كانوا مدفوعين بعدائهم لعبد الناصر، إلى الدرجة التي أصبحوا فيها عميانًا عن أي شيء آخر، بما في ذلك مصلحة سورية ذاتها.

حينما وقع انقلاب 8 مارس (آذار) 1962 في سورية، اضطرت الحكومة الجديدة لمنافقة مشاعر الشعب السوري، فعلى رغم الانفصال كان هذا الشعب متعلقا بشدة بزعامة عبدالناصر، وبالوحدة مع مصر، باعتبارها الأمل الحقيقي في نهضة عربية جادة. هكذا رأى عبد الناصر خصومه السابقين وهم يأتون إليه في القاهرة لكي يجلسوا على كرسي الاعتراف، ودارت مباحثات جديدة بين مصر وسورية والعراق «على أساس أن حزب البعث كان هو الحاكم في كل من سورية والعراق» ودارت مباحثات جديدة للوحدة الثلاثية من 14 مارس (آذار) حتى 17 أبريل (نيسان) سنة 1962 في القاهرة، وكان الوفد السوري بقيادة لؤى الأتاسي رئيس مجلس قيادة الثورة، وصلاح البيطار رئيس الوزراء، أما الوفد العراقي فكان برئاسة أحمد حسن البكر رئيس الوزراء وقتها «ورئيس جمهورية العراق فيما بعد» ونائبه علي صالح السعدي.

في تلك المرة رفض عبدالناصر أن يضع يده من جديد في وحدة جديدة مع حزب البعث، وحينما تفحص ملف كامل أمين ثابت أو إيلي كوهين وجد أن الاحتمالات أصبحت أكثر خطورة، إنه في موقع لا يجعله ينقل أسرار سورية إلى إسرائيل فحسب، بل أيضا ينقل أسراراً سياسية وعسكرية لمصر ومعظم الدول العربية ذات العلاقات الوثيقة أو حتى غير الوثيقة مع سورية.

استهتار بملف عبد الناصر

على رغم الأسباب الكثيرة لدى عبدالناصر للمرارة الشديدة من حزب البعث الحاكم في سورية، إلا أن تعليماته التي أصدرها كانت: هذا الملف السري الذي تملكه مصر عن إيلي كوهين لا بد من إرسال صورتين كاملتين على وجه السرعة منه إلى سورية، وفي إطار من السرية، تسلم النسخة الأولى منه الرئيس أمين الحافظ شخصيًا، والنسخة الأخرى العقيد أحمد السويداني رئيس وحدة مكافحة التجسس في المخابرات السورية.

لم يكن الملف المصري يتضمن سوى الوقائع، لم يكن عبدالناصر يريد شيئا محددا من السوريين، تركهم لضميرهم، لكن في تلك الفترة كانت الضمائر في سبات عميق، وللأسباب التي تبعد تماما عن أي منطق، فرئيس الجمهورية أمين الحافظ لا يصدق أبدا تلك المعلومات المصرية، فهو شخصيا يرتبط بصداقة وثيقة مع كامل أمين ثابت منذ أن كانا في الأرجنتين، وهو خلال عمله هناك كملحق عسكري رأى بعينه نشاط ثابت في المهجر، وصفقاته للاستيراد والتصدير، فضلا عن أنه كان من كبار ممولي حزب البعث، ولا بد من أن ذلك هو دافع عبدالناصر، الذي يكره حزب البعث، للتآمر عليه وعلى حزبه وعلى أصدقائه.

هكذا استمر كامل ثابت في دمشق بعيدا عن الشبهات، بل وأصبح مرشحا لمنصب وزاري مهم، وحينما بدأت الشكوك تراود الحافظ بشأن المعلومات التي تتسرب إلى إسرائيل ووجود خائن داخل القيادة السياسية العليا، لم يجد رئيس الجمهورية من يشكو إليه تلك الهموم سوى كامل ثابت، فكان الأخير ينصح رئيس الجمهورية نهارا، ويرسل بمعلوماته إلى إسرائيل ليلا، مستخدما جهاز الإرسال السري الذي يخفيه بغرفة نومه، وكان هذا التصرف هو أكبر أخطائه، حيث لا يجب على عميل مخابرات أن يحتفظ بجهازه للإرسال والاستقبال لمدة طويلة في مكان واحد لا يتغير، لكن أمين ثابت كان مطمئنا تماما إلى انهيار أجهزة الأمن السورية، وانشغال الزمرة الحاكمة كلها بعدائها لعبدالناصر، ثم علاقته الحميمة مع الحافظ كانت درعه الواقي ضد أية شكوك.

مع ذلك، كانت الدائرة تضيق حول كامل ثابت لأسباب أخرى، وبتفكير آخر، فقد تلقى في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1964 رسالة شفرية من مقر قيادة الموساد في تل أبيب تستدعيه إلى الحضور فورًا، فسافر من دمشق إلى زيورخ في سويسرا أولا، ثم إلى الأرجنتين، ومنها عاد إلى أوروبا التي سافر منها إلى إسرائيل، وكانت تلك إجراءات احتياطية لتضمن بها المخابرات الإسرائيلية عدم تمكن أحد من متابعته أو اقتفاء أثره.

في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 1964 وقع صدام عنيف بين سورية وإسرائيل على الحدود، قامت خلاله الطائرات الإسرائيلية المقاتلة باختراق الحدود السورية وتدمير قنوات تحويل مياه نهر الأردن مع كل معدات المشروع من خلال سلسلة غارات جوية لا مثيل لها، وتم ذلك في يوم واحد، فقضت إسرائيل على أي محاولة عربية تمنعها من سرقة مياه نهر الأردن... ويومها ساد الذهول السلطة الحاكمة كلها في دمشق، ولم يكن هذا الذهول يرجع إلى الشعور بالمفاجأة فحسب، ولا إلى فداحة وعمق الضربة، لكن إلى الدقة الكاملة التي أصابت بها إسرائيل أهدافها، وأدركت سورية أنها عارية تمامًا أمام إسرائيل... لم يكن الشعور أكثر وجيعة لأحد من أجهزة الأمن السورية، فكي تستطيع إسرائيل أن تقوم بهذا العمل لا بد من أن تكون في حوزتها مسبقًا الأسرار الكبرى كلها عن أمن سورية، وأن لها عيناً ترى وأذناً تسمع داخل القيادة العليا.. فمن تكون هذه العين وهذه الأذن؟ هذا الخائن موجود في المراكز العليا.

شكوك صامتة

مرة أخرى بدأ أعضاء القيادة السورية العليا يتبادلون الشكوك الصامتة في بعضهم بعضًا، بغير أن تشك أذهانهم مطلقًا في هذا المليونير الوطني المتعصب كامل ثابت، وحينما عاد الأخير إلى دمشق ورأى مرارة الشعور بالإذلال والهزيمة بين أصدقائه من شاغلي المراكز العليا، كان يعلق بقوله: تعني تلك الضربة الإسرائيلية الموجعة أنه حان الوقت لوضع حد للصلف الإسرائيلي، فإسرائيل هي أحط وأقذر عدو للقومية العربية!! وعبدالناصر في القاهرة مجرد شخص خائف من مواجهة إسرائيل، ولكي يُكشف لا بد من أن تبادر سورية، قلب العروبة النابض، إلى شن حرب على إسرائيل فورا، فيُجرجر العرب جميعًا خلفها.

مع كل تلك المزايدات، بدأ كامل ثابت يحس بوجود تغيير ما، في الطريقة التي يُرحَّب به في مكاتب كبار المسؤولين السوريين ومنازلهم، وحتى تلك الفترة.. لم يكن الأمر يرجع في الواقع إلى أية شكوك ضده، بقدر ما كان يرجع إلى إجراءات تحفظية جديدة اتخذها الأمن السوري، للحد من عدد الذين يُطلعون على أسرار الدولة العليا، لأن الأمر أصبح جادا وخطيرا، ولا يجب استبعاد أحد من صرامة الإجراءات.

وذات يوم قام سالم سيف مدير البرامج الموجهة في إذاعة دمشق بتوجيه نصيحة مخلصة إلى صديقه كامل ثابت، فقال له: إنني ألاحظ أخيرًا وجود مناخ من الشك والارتياب في كل شيء داخل القيادة العليا، والأمر ليس مقلقا ولكنه يتطلب منك المزيد من الحذر فحسب، وكانت المخابرات الإسرائيلية أكدت لإيلي كوهين أن عليه أن يطمئن تماما لسالم سيف هذا، العميل السري الآخر لإسرائيل، وكان معنى هذا التحذير أن المخابرات الإسرائيلية تستشف قدرا من الخطر ضده، مع ذلك كان رده على سيف يومها: لا تقلق.. فانفعال القيادة السورية نحو إسرائيل عابر وموقت، لأن أنظارهم موجهة ضد عبدالناصر، وعداؤهم له سيعميهم تماما عن إسرائيل طوال الفترة المقبلة.

كانت قيادة الموساد في إسرائيل تدرك تماما في تلك الفترة وجود مخاطر على بقاء عميلها في دمشق، لكن المشكلة كانت مزدوجة، فرئيس المخابرات مائير أميت كان في سباق مع الزمن للحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن التحصينات السورية في هضبة الجولان، بالإضافة إلى كل المعلومات السياسية والعسكرية والاقتصادية عن الدول العربية الأخرى، من خلال اختراق كوهين للقيادة السورية، ومن ناحية أخرى فإن كمية الأموال التي استثمرتها المخابرات الإسرائيلية في عميلها هذا كانت من الضخامة بحيث أنها تريد الآن أن تعتصره تماما حتى ولو كان هذا يعني قدرا من المخاطرة، وأخيرا بعد العلاقات الحميمة التي شكلها جاسوس إسرائيل مع شاغلي المراكز العليا في دمشق لم يكن ممكنا أن يختفي فجأة من سورية، والمسألة تحتاج إلى ترتيبات تدريجية لعودة المليونير الوطني السوري إلى المهجر في الأرجنتين.

الفخ

ذات ليلة وجد كامل ثابت من يطرق باب فيلته في وقت متأخر من الليل، ولما فتح الباب وجد أمامه صديقه العقيد سالم حاطوم الذي ترك قيادته في الجولان وجاء إلى دمشق في زيارة سريعة، ولم يجد مكاناً مناسبا للثرثرة والمرح سوى فيلا صديقه هذا، وبعد وقت قصير بدأت الأسرار تتدفق من فمه، بأن الضباط السوريين في هضبة الجولان وبطول الحدود مع إسرائيل في حالة غليان، وحتى تهدئ القيادة العليا تلك الحالة وضعت خططا سريعة لإرسال فرق تخريبية داخل إسرائيل. إنه تفكير أحمق ومتسرع وهو (حاطوم) غير مستريح بالمرة إلى العواقب.

بمجرد انصراف حاطوم في الفجر، وعلى الرغم من أن كامل ثابت لم يكن مستريحاً تماما إلى دقة المعلومات التي ذكرها له عن الخطة السرية الجديدة للتخريبات داخل إسرائيل، إلا أنه أخرج على الفور جهازه السري للإرسال والاستقبال من تحت السرير، وبدأ يرسل تلك المعلومات بالشفرة إلى إسرائيل.

كانت الساعة الثامنة صباحًا، وبينما العاصمة السورية دمشق لا تزال هادئة في مطلع يوم جديد، إلا أن كامل ثابت كان منهمكا تماما على جهاز إرساله السري، يرسل برسائله المشفرة إلى الموساد ما عنده من أخبار. فجأة وجد من يقف فوق رأسه، لم يكن واحدًا، بل كان هناك عدد كبير من ضباط المخابرات السورية يقودهم العقيد أحمد السويداني بنفسه.. أصيب كامل بحالة من الرعب والهلع.. لكن السويداني ربت على كتفه قائلا: «لا تخف، أنت الآن بين أيد أمينة، وعليك أن تستمر في إرسالك إلى تل أبيب كما كنت تفعل، ونحن الذين سنمليك من الآن فصاعدا نص الرسائل التي ستبلغها إلى قيادتك».

تحفظت المخابرات السورية على كامل ثابت الذي عاد لاسمه الحقيقي مرة أخرى وأصبح إيلي كوهين، داخل الفيلا نفسها لثلاثة أيام كاملة، وأُرغم على الاستمرار في رسائله المشفرة إلى المخابرات الإسرائيلية كما لو لم يكن قد حدث شيء، لكن الرسائل تلك المرة كانت تعطي لإسرائيل معلومات كاذبة وملفقة. لم يكن أمام كوهين سوى الامتثال للأوامر، لكنه ذات مرة غَّير قليلا من سرعة إرسال جهازه، وهي إشارة متفق عليها سابقا مع قياداته بالموساد، فإذا أُرسلت تلك الإشارة يُعرف منها أن العميل انكشف.

أرغمت المخابرات السورية كوهين على إرسال رسالة نصها: «إلى رئيس الوزراء ليفي أشكول، وجهاز الموساد في تل أبيب، رسالة من المخابرات السورية: أصبح كامل أمين ثابت وأصدقاؤه ضيوفنا في دمشق، ونحن نفترض أنكم سترسلون إلينا بكل زملائه، أما بالنسبة إليه فإنكم ستعرفون قريبًا كل الأخبار عن المصير الذي سيواجهه».

بقي خبر القبض على أخطر جاسوس إسرائيلي في قلب السلطة الحاكمة في سورية محل كتمان على المستوى الرسمي في دمشق، وكان المأزق الأول يتعلق بالرئيس السوري أمين الحافظ نفسه، فقد كان أقرب الأصدقاء إلى قلبه وقلب زوجته، لكن الحافظ لم يكن يستطيع شيئًا إزاء الأدلة الدامغة التي قدمها إليه رئيس المخابرات، وفوق ذلك قال العقيد السويداني للحافظ بكلمات مفعمة بالمرارة: «سيادة الرئيس... لقد كنا نستطيع حماية جزء كبير من أسرارنا العليا لو أننا صدقنا الملف السري الذي أرسله إليك الرئيس عبدالناصر».

استوعب الحافظ ما يعنيه قائد مخابراته، وقرر أن يفعل شيئًا آخر، أن يذهب بنفسه ويستجوب كامل ثابت في السجن!! وذلك ليطمئن قلبه، وبعد أن فعل ذلك عاد إلى مكتبه وهو يصرخ: «يا إلهي، شيء لا يصدقه عقل. كامل أمين ثابت، إنه حتى ليس مسلما... لقد سألته بضعة أسئلة بسيطة في الدين الإسلامي فذهلت عندما اكتشفت من أجوبته أنه ليس مسلمًا، إنه، إنه إسرائيلي». رد عليه السويداني: إنه يا سيدي جاسوس إسرائيلي وكان مرشحًا لمنصب رفيع جدا هنا.

اضطر الحافظ لابتلاع تلك الكلمات بمرارة شديدة، لأن الساعات التالية كشفت ما هو أكثر خطورة، فقد تبين من التحقيقات تورُّط أكثر من 60 من كبار ضباط الجيش السوري مع هذا الجاسوس، وأمدوه بأسرار خطيرة، وأدين منهم 17 بتهمة إفشاء أسرار الدولة العليا والإضرار بأمنها القومي، وحُكم عليهم بالإعدام.

على رغم ذلك أصرت القيادة السياسية في دمشق على جعل محاكمة كوهين سرية، والاكتفاء بتسجيلها بالكاميرا فحسب، حتى لا ينقلب الشعب السوري على حكومته بعد أن يرى مدى تفريطها في حماية أمن بلدها أولا، وثانيا وعلى حد تعبير الحافظ نفسه: حتى لا نعطي لعبدالناصر فرصة ذهبية لكي يدلل على استهتارنا، بخاصة بعد أن أهملنا تماما ذلك التحذير المبكر الذي بعث به إلينا من القاهرة.

أما إسرائيل فبدأت تعمل على مستويين، سري وعلني. على المستوى السري، أبلغت سورية بواسطة دول وسيطة بأنها في سبيل إنقاذ حياة إيلي شاؤول كوهين مستعدة لإعطائها صفقة كبرى من اللوريات والجرارات والمعدات الطبية، وكذلك إعادة جواسيس سورية المسجونين في السجون الإسرائيلية وعددهم عشرة، بالإضافة إلى شيك بمبلغ مليون دولار، ولما رفضت سورية العرض، انتقلت إسرائيل للمستوى العلني، فأنكرت تماما أي صلة لجهاز مخابراتها بهذا الجاسوس، وبدأت بشن حملة دعائية كبرى ضد الحكومة السورية بأنها معادية للسامية، وأنها تحاكم «يهوديًا بريئا» لمجرد أنه يهودي، وتدخل لدى سورية عدد من كبار المسؤولين الدوليين للعفو عن كوهين، على رأسهم الملكة إليزابيث و22 من أعضاء مجلس العموم البريطاني، ورئيس وزراء كندا السابق، واثنان من رؤساء الحكومات الفرنسية السابقين، ولجنة العفو الدولية، ووزير خارجية الأرجنتين، وبابا الفاتيكان. انتدبت الحكومة الإسرائيلية اثنين من كبار المحامين الفرنسيين للدفاع عنه على أساس أنهما موكلان من زوجته وأسرته، لكن المخابرات السورية رفضت إعطاءهما أية تسهيلات.

سارت محاكمة كوهين طبيعية في دمشق، فبعد أن قُبض عليه في يناير (تشرين الثاني) 1965، انتهت محاكمته في 19 مارس (آذار)، وصدّق الرئيس السوري على إعدامه، ونفِّذ حكم الإعدام فيه علنًا في 18 مايو (أيار) 1965.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق