الثلاثاء، 19 أبريل 2011

إفهام العقول وتربية النفوس حول دولة الفرس المجوس

إخواني الكرام ... أدعوكم إلى تأملات وقراءة في السيرة العطرة مع .. المربي الأعظم للأمة والقائد والقدوة محمد صلى الله عليه وسلم ونقرأ قصة من روائع القصص النبوي الشريفة ... لنفهم ونعقل ونربي أنفسنا من هذا المعين الإلهي المعجز ... وأسوق لكم قصة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس ... قصة كلها عبر وإعجاز .... وإليكم البداية:

نص الرسالة:

"مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، أَنْ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، مَنْ شَهِدَ شَهَادَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَلَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ".

المشهد الأول: الرسالة في طريقها إلى فارس

جهَّز عبد الله بن حذافة رضي الله عنه راحلته، وودَّع صاحبته وولده، ومضى إلى غايته ترفعه النجاد، وتحطه الوهاد، وحيدًا، فريدًا، ليس معه إلا الله. حتى بلغ ديار فارس، فاستأذن بالدخول على ملكها، وأخطرَ الحاشية بالرسالة التي يحملها له، عند ذلك أمر كسرى بإيوانه فزُيِّن، ودعَا عظماء فارس لحضور مجلسه فحضروا، ثم أذِنَ لعبد الله بن حذافة بالدخول عليه.

دخل عبد الله بن حذافة على سيد فارس، مشتملًا شملته الرقيقة، مرتديًا عباءته الصفيقة، عليه بساطة الأعراب، لكنه كان عاليَ الهمَّة، مشدود القامة، تتأجج بين جوانحه عزَّةُ الإسلام، وتتوقَّد في فؤاده كبرياءُ الإيمان. المؤمن له هيبة، ومَن هاب اللهَ هابه كلُّ شيء. فما إن رآه كسرى مقبلًا، حتى أومأ إلى أحدِ رجاله أن يأخذ الكتاب من يده، فقال عبد الله بن حذافة: لا، إنما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدفعه إليك يدًا بيد، وأنا لا أخالف أمر رسول الله. فقال كسرى لرجاله: اتركوه يدنو مني، فدنا من كسرى حتى ناوله الكتاب بيده، ثم دعا كسرى كاتبًا عربيًّا مِن أهل الحيرة، وأمَرَه أن يفضَّ الكتاب بين يديه، وأن يقرأه عليه، فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام الله على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك."

فما إن سمع كسرى هذه الرسالة، حتى اشتعلت نار الغضب في صدره، فاحمر وجهه، وانتفخت أوداجه، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، بدأ بنفسه، وبدأه بقوله: من محمدٍ رسول الله إلى كسرى، فكان تفكير كسرى تفكيرًا شكليًّا، ولم يفهم المضمون، ولم يهتمَّ له، فغضِبَ للشكل. غضب هذا الرجل المغرور المتكبر رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه بالعظمة فقال (إلى عظيم الفرس)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم دقيقًا في ألفاظه فلم يقل (سلام عليك) بل قال (سلامٌ على من اتّبع الهدى)، أي إن اتبعتَ الهدى فسلامٌ عليك، وإن لم تتبع الهدى، فالسلام ليس عليك، على من اتبع الهدى... وهكذا .. ولكن أنَّى يأتي الخير من رجل امتلأت نفسه كبرًا وتيها فظن أنه الوحيد وما عداه صفرًا. وكيف يؤمل الإنسان خيرًا... وما ينفك مُتَّبِعًا هواه يظن بنفسه قدرًا وشرفًا ... كأن الله لم يخلق سواه ولعل كسرى انفعل هذا الانفعال الشديد بسبب هزيمته الأخيرة التي نالها على أيدي الروم، فظن أن الأعراب والتابعين بدؤوا يتجرؤون عليه بسبب هزيمته.

لقد فقد كسرى توازنه تمامًا إذ إنه جلب الرسالة من يد كاتبه، وجعل يمزِّقها دون أن يدري أي شر يجره على نفسه، مزقها وهو يصيح: أيكتبُ لي بهذا، وهو عبدي؟ لأنه من أتباعه، ولأن "باذان" عامله على اليمن، تابع لكسرى، والْمَنَاذِرَة وعاصمتهم الحيرة يتبعون كسرى، فهذا الذي قال له: من محمد رسول الله هو من عبيده، هكذا يَفهَم كِسرى، قال: أيكتب لي بهذا وهو عبدي؟!!! ثم أمر بعبد الله بن حذافة، أن يُخًرَج من مجلسه، فأُخرج. فلما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذلك الخبرُ قال: "اللهم مزِّق ملكه".

المشهد الثاني: رد فعل عظيم كسرى

قام كسرى منتفخًا وأمر كاتبه أن يكتب إلى "باذان" نائبه على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل، الذي ظهر بالحجاز، رجلين جَلْدين من عندك، ومُرهما أن يأتياني به. ولم تكن هذه المرة الأولى التي يسمع بها أهل اليمن عن دعوة الإسلام إذ أن أرض الحجاز ليست بعيدة عن أهل اليمن فهناك ارتباط وثيق بين البلدين من زمن بعيد من حيث الموقع الجغرافي ومن حيث الرحلات التجارية التي كانت قريش تقوم بها في رحلتي الشتاء والصيف.

وقد سمع أهل اليمن عن رجل يدعي النبوة من أهل مكة وسمعوا أنه خرج طريدًا إلى يثرب وأقام بها حتى الآن أي قرابة عشرين عامًا -إذ ظل النبي في مكة ثلاثة عشر عامًا وها نحن في العام السابع للهجرة - كل هذا والأمر حتى الآن لا يعنيهم بل يتابعونه من بعيد. لكن "باذان" ما إن وصلته رسالة سيده كسرى حتى انتدب رجلين من خيرة رجاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمَّلهما رسالةً له، يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كِسرى، دون إبطاء، وطلب إلى الرجلين أن يقفا على خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يستقصيا أمره، وأن يأتياه بما يقفان عليه من معلومات. فخرج الرجلان يُغِذَّان السير إلى غايتهما شطر المدينة، حتى إذا بلغاها علمَا مما رأيَا من تعظيم أهل المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم وحبهم له مدى خطورة المهمة التي أقبلا من أجلها حيث إنهما لا يستطيعان أن يأتيا بمحمد إلا إذا أتيا بأهل المدينة أجمعين، نظرًا للمحبة والفداء التي يصنعها أهل المدينة لمحمد صلى الله عليه وسلم.

ولما دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حَلَقَا لِحَاهُمَا وأَعْفَيَا شواربهما، فَكَرِهَ النظرَ إليهما، وأظهر ذلك لهما وقد أشاح بوجهه إلى الجانب الآخر حتى لا ينظر إليهما وقال: (ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا أمرنا ربنا، (يعنيان كسرى) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي). ودفع الرجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسالة باذان، وقالا له: إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا باذان، أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه، "شرِّف معنا " فإن أجبتنا، كلَّمنا كسرى بما ينفعك، ويكفُّ أذاه عنك، وإن أبيت، فهو مَن قد علمت سطوته وبطشه وقدرته على إهلاكك، وإهلاك قومك، "إذا قلت : لا، فإن كسرى قادرٌ على أن يهلكك، ويهلك قومك. لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم بل تبسَّم عليه الصلاة والسلام، وقال لهما: ارجعا إلى رحالكما اليوم، وائتيا غدًا. فلما غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي، قالا له: هل أعددتَ نفسك للمُضِيِّ معنا إلى لقاء كسرى ؟ فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: إن ربى قتل ربكما الليلة. لن تلقيا كسرى بعد اليوم، فلقد قتله الله، حيث سلَّط عليه ابنه شيرويه في ليلة كذا من شهر كذا وقتَله. إنه خبرُ الوحي، نقله بهدوء، لن تلقياه بعد اليوم، لقد قتله الله، لأنه مزَّق الكتاب. فحدَّقا في وجه النبي، وبدت الدهشة على وجهيهما، وقالا: أتدري ما تقول!! أنكتب بذلك لباذان؟ قال: نعم، وقولا له: إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى، وإنَّك إن أسلمتَ، أعطيتكَ ما تحت يديك، وملَّكتكَ على قومك. بلِّغا باذان وقولا له: إنّ مُلكي سيصل إلى ملك كسرى، وأنت إن أسلمتَ أقررناك على ملكك، اختلف الأمر اختلافًا كُلِّـيًّا.

المشهد الثالث: موقف باذان من كلام الرسول

خرج الرجلان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدما على باذان، وقالا له لقد أرسلتنا إلى رجل نأتيك به لا نستطيع أن نأتي به إلا إذا أتيناك بأهل المدينة جميعًا، وأخبراه الخبر. طار عقل باذان، لكن باذان كان رجلا لبيبًا عاقلاً حازمًا يعرف مصادر الأمور ومواردها، فقال لمن حوله: إن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من شهر لنعرف حقيقة محمد. قال له جلساؤه: كيف ذلك؟ قال باذان: ننتظر حتى تأتينا الرسل من فارس، فلئن كان ما قال محمّدٌ من قتل كسرى حقًّا فإن محمد نبيّ صادق. أما إن كان غير ذلك فلنا معه شأن آخر.

لم يكن وقتها أقمار صناعية، أو محطات بث مباشر، أو محطات وكالات أنباء عالمية، لم يكن لهذا كله وجود، بل إن الخبر يومها يحتاج إلى شهر كامل أو يزيد حتى ينتقل إلى اليمن. وعلم أهل اليمن بالقصة كلها، فظل باذان ومن معه من أهل اليمن في انتظار الرسل من قبل كسرى .. انتظروا شهرًا كاملًا .. حتى جاءت الرسل .. فقال لهم أهل اليمن: هل حقًّا قُتل كسرى؟ فتعجب الرسل .. فَغَرُوا أفواههم قائلين: من أخبركم؟! من أعلمكم؟! قال باذان: كيف تم ذلك؟! قالوا: لقد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقد قام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله، وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع هـ، واستلم حكمه فحسبوا الليلة التي قتل فيها فإذا هي الليلة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فض باذان رسالة شيرويه التى فيها: "أما بعد فقد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا انتقامًا لقومنا، فقد استحلَّ قتلَ أشرافهم، وسبيَ نسائهم، وانتهابَ أموالهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن عندك".

فما إن قرأ باذان كتاب شيرويه، حتى طرحه جانبًا، وأعلن دخوله في الإسلام، وأسلم من كان معه من الفرس في بلاد اليمن.

يا لباذان!! لقد آمن قلبه وفؤاده وسجد لله رب العالمين.. وآمن معه أهل اليمن. فلقد تأكدوا من صدق ما قاله محمد، ولمسوا ذلك بأنفسهم.. وقالوا: لم يعد لنا قبلة نتوجه إليها إلا حيث يتوجه محمد وصحبه.

المشهد الرابع: استجابة دعاء الرسول وتمزيق ملك فارس

وصل الخبر إلى مدينة رسول الله يعلمهم بإسلام باذان وإسلام أهل اليمن التي هي امتداد جعرافي للجزيرة العربية. وفرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم فرحًا شديدًا، وقال لأصحابه مُرحبًا بوفدهم : (أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوبًا منكم، وألين أفئدة، وهم أول من جاء بالمصافحة) .. ثم قال صلى الله عليه وسلم : "الإيمان يمان، الفقه يمان، والحكمة يمانية".

وأرسل إليهم جماعة من أكابر أصحابه يعلمونهم الإسلام منهم الصحابي الجليل على بن أبى طالب ثم معاذ بن جبل الذي قال معلمًا إياه: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وَتَوَقَّ كرائم أموال الناس".

إنها خطوات مفصلة يعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يبدؤوا بالأهم فالمهم كما يقول القائل: العلم إن طلبته كثير .. والعمر في تحصيله قصير .. فقدم الأهم منه فالأهم.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يظل باذان على ملكه.. يا لِباذان.. نال عز الدنيا، وسعادة الآخرة! أما كسرى ففي مزبلة التاريخ، لقد مزق الله ملكه، فلم تقم له قائمة بعد ذلك. وما هي إلا سنوات معدودات حتى كانت مطارق الفتح الإسلامي تضرب إيوان كسرى وتسيطر عليه ودخل الصحابي الجليل سعد بن أبى وقاص إيوان كسرى بعد هزيمتهم دخل باكيًا يقرأ قول الله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ [سورة الدخان: 25-29].

وصدق الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى... نقف مع هذه القصة للعبرة ونفهم ونعقل ونربي عقولنا على اتباع الحق وفهم الحقائق الإلهية... ونربي أنفسنا على الثقة بوعد الله وأن توقن أنفسنا بوعيد الله ونؤمن بسننه في الكون وفي الزمان وفي الأمم.. فلا ننجرف وراء كل ناعق.

تَمَزَّقَ عرش ومملكة كسرى ... فلن تقوم أبدًا ... ولن تعود مهما حاول هؤلاء الصفويون بخيلهم ورجلهم مملكة الفرس كتب الله عليها الفناء وذلك وعد الله الحق وأمره.


الكاتب /غانم عبد الله الشمري

14 من جمادى الأولى 1432هـ / 17 من إبريل 2011م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق